خطبة: المؤمن كالغيث في نفع الناس – مكتوبة

خطبة: المؤمن كالغيث في نفع الناس – مكتوبة

عناصر الخطبة

  • من أعظم النعم التي يختص الله ﷻ بها عباده الصالحين، أن يجري الخير والمعروف على أيديهم، وأن يكونوا سبباً في قضاء حوائج الناس، فإن بذل المعروف من صفات الأنبياء، وعباد الله الأصفياء.
  • بذل المعروف للناس يؤدي إلى تحقيق التكافل والتعاون في المجتمع، ونشر المحبة والخير بين أبنائه، ليبقى المجتمع عزيزاً قوياً تسوده أجواء الرحمة والتآخي، وإزالة أسباب التَّحاسد وبواعث الحقد والبغضاء من نفوس النَّاس.
  • مجالات بذل الخير والمعروف كثيرة الأبواب، متعددة الشعاب، يتوصل بها المسلم إلى محبة الله ﷻ ومحبة الناس، وإلى الأجر العظيم عند الله وزيادة البركة في النعم ودوامها.
  • المحافظة على دعاء سيدنا عليه يونس عليه السلام: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).

الخطبة الأولى

من عظمة الإسلام أنه دين رباني حرص على تحقيق التكافل والتعاون في المجتمع، ونشر المحبة والخير بين أبنائه، ليبقى المجتمع عزيزاً قوياً تسوده أجواء الرحمة والتآخي، وإزالة أسباب التَّحاسد وبواعث الحقد والبغضاء من نفوس النَّاس، فالمسلم حين يتفقد أحوال إخوانه وجيرانه، ويبذل الخير والنفع لهم، فإنه بذلك يحفظ استقرار المجتمع، وتتصافى القلوب، وتُطهر النفس من شهواتها، روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مِنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا».

ولو تأملنا في ثمرة العبادات التي شرعها الله ﷻ لوجدنا أنها تهدف إلى ربط الإنسان مع خالقه، وإلى إصلاح علاقته مع الناس، لأن ذلك من أهم أسباب إصلاح النفس وتزكيتها وإصلاح المجتمع ورقيه، لأجل ذلك أمر الله ﷻ المؤمنين ببذل المعروف وحبب إليهم فعله، ويسّر لهم طرقه وسبله، ليكون المؤمن كالغيث أينما وقع ونفع، يرسله الله ﷻ على الأرض الجدبة فيحييها، يقول النبي ﷺ: قال رسول الله ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» ← صحيح مسلم، وقال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» ← صحيح مسلم.

وقد أخبرنا النبي ﷺ أن أحب خلق الله ﷻ إلى الله، وخيرهم منزلة عنده أنفعهم لعباده، وأحناهم قلباً عليهم وأحسنُهم خُلُقاً معهم، يقول الله ﷻ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة: 195، ويقول النبي ﷺ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» ← المعجم الأوسط للطبراني.

وإن من أعظم النعم التي يختص الله ﷻ بها عباده الصالحين، أن يجري الخير والمعروف على أيديهم، وأن يكونوا سبباً في قضاء حوائج الناس، فإن بذل المعروف من صفات الأنبياء، وعباد الله الأصفياء يقول ﷻ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) الأنبياء: 73، ويقول سبحانه حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام ذاكراً نعم الله ﷻ عليه: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) مريم: 31.

قال القرطبي في تفسيره: “أَيْ ذَا بَرَكَاتٍ وَمَنَافِعَ فِي الدِّينِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَمُعَلِّمًا لَهُ”.

الناس للناس ما دام الوفاء بهم
والعُسر واليُسر أوقات وساعاتُ

وأكرم الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجاتُ

لا تقطعن يد المعروف من أحدٍ
ما دمت تقدر والأيام تاراتُ

واذكر فضيلة صنع الله إذ جُعلت
إليك لا لك عند الناس حاجاتُ

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أحياءُ

عباد الله: إن بذل المعروف للناس، والسعي في قضاء حوائجهم دليل على كمال الإيمان وطاعة الله ﷻ، وإن مجالات بذل الخير والمعروف كثيرة الأبواب، مختلفة الشعاب، وقد ذكر لنا النبي ﷺ صوراً منها إن بذلها المسلم أحبه الله ﷻ وأحبه الناس، منها ما ذكره النبي ﷺ في الحديث الشريف: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا – وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ».

ومن هذه الصور أن يسعى المسلم في جبر خواطر الناس ولو كان بالابتسامة الصادقة أو الكلمة الطيبة، يقول النبي ﷺ: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» ← متفق عليه.

فمن لم يستطع بذل المعروف للناس أو السعي في حوائجهم فلا أقل من أن يكفّ شره عنهم، فلا يؤذيهم بفعله، أو بقلمه أو بلسانه، وقد قال النبي ﷺ: قال: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك» ← صحيح مسلم.

إن لبذل الخير والمعروف منافعَ عميمةً، وأجوراً عظيمةً عند الله ﷻ، منها: دوام النعم وزيادتها، وزيادة البركة فيها من الله ﷻ، يقول الله ﷻ: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) المزمل: 20، ويقول النبي ﷺ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» ← صحيح البخاري.

وبالمقابل فإن من يبخل بنفع إخوانه وقضاء حوائجهم، يحوّل الله ﷻ نعمه إلى نِقم، وينزع البركة من ماله وعمله، فلا خير فيمن يحجبُ خيره عن غيره، فنعمته إلى زوال، لأنها غير محفوظة بالبذل، وغير مصانة بالإسداء، يقول ﷻ: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) الليل: 8–11، يقول النبي ﷺ «إِنَّ للهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ العِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا يَبْذُلُونَهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلى غَيْرِهِمْ» ← معجم الطبراني.

قال فيض بن إسحاق رحمه الله ﷻ: كنتُ عند الفضيل بن عياض رحمه الله ﷻ، فجاء رجلٌ فسأله حاجة، فألحّ في السؤال عليه، فقلتُ: لا تؤذِ الشيخ، فزجرني الفضيل، وصاح عليّ، وقال: أما علمت أن حوائج الناس إليكم نِعمٌ من الناس عليكم؟ فاحذروا أن تملُّوا النِعم فتُحوّل نِقماً”.

ويقول حكيم بن حزام رضي الله عنه: “ما أصبحتُ وليس ببابي صاحبُ حاجة، إلا علمتُ أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها”.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.

ومن المنافع العظيمة للبذل والعطاء بين الناس، هو رفع الذِكر للإنسان وحبهم له، وذلك بعد أن يرفع الله ﷻ ذكره في الملأ الأعلى ثم يوضع له القبول في الأرض، فيبقى ذِكره عطراً بين الناس في حياته، ويدوم بذكر مآثره والاستغفار له بعد مماته، يقول النبي ﷺ: «أهل الجنة، من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا، وهو يسمع، وأهل النار، من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شرا، وهو يسمع» ← سنن ابن ماجه، وهو من أسباب الوقاية من المخازي والمهالك وسبيل للظفر بحسن الخاتمة، يقول النبي ﷺ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ» ← المعجم الأوسط للطبراني.

والحمد لله رب العالمين..

أضف تعليق

error: