خطبة: أهمية بناء الأسرة في الإسلام – مكتوبة كاملة

خطبة: أهمية بناء الأسرة في الإسلام – مكتوبة كاملة

أتيناكم ومعنا هذه الخطبة المباركة بعنوان «أهمية بناء الأسرة في الإسلام». حيثُ ينبثق من عمق تعاليم الإسلام منارٌ يشع بأهمية بناء الأسرة، تلك الخلية الصغيرة التي تشكل أساس المجتمع الإسلامي. في خطبتنا هذه، سنتناول بشمول وتأمل أهمية بناء الأسرة في ضوء القرآن والسنة النبوية.

نعم، إن بناء الأسرة ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل هو واجب ديني يحمل في طياته فهمًا عميقًا لالتزامات الإنسان في حياته. يقول الله في كتابه الكريم: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 19). تظهر هذا الآية الكريمة جليًا كيف يحث الإسلام على معاملة الزوجات بالمعروف والرفق، مما يبرز أساسًا من أسس بناء الأسرة.

سننغمس في هذا الخطبة في تفاصيل هذه الخطوط الإرشادية، مستعرضين مفهوم بناء الأسرة، وأثره في استقرار المجتمع والتطور الروحي للفرد. إن هدفنا هو تسليط الضوء على الروحانية والحكمة التي يتضمنها الإسلام في فهم هذه البنية الأسرية الراسخة.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، ثم أما بعد.. فيا عباد الله، قال الله ﷻ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾، هذه هي نعمة الله.

ما هي نعمة الله التي ذكرها في هذه الآية؟ نعمة الأسرة. التكوين الأُسري نعمة من عند الله ﷻ، نعمة منه أن يجعل لك زوجة، ونعمة منه أن يجعل لك بنين وحفدة. وعليك أن تُقدر هذه النعمة، وأن تعطيها حقها، وأن تبعث مسؤوليتك التي أناطها الله لك نحو أسرتك، نحو زوجتك ونحو أولادك.

هذا هو القرآن الكريم، يتحدث عن هذه النعمة في مطلع سورةٍ من صوره الطوال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

هل لاحظنا هذه النعمة؟ هل حاولنا أن نستثمرها؟ كيف يكون استثمار نعمة الأسرة؟

القرآن تحدث كثيرا عنها، ونحن نعيش وقتًا على هذا المنبر ضيقا للغاية، فأريد أن أقتنص الفرصة لأبعث بما في داخلي إليكم بشكل سريع جدا وموجز جدا.

القرآن حينما تكلم عن نعمة الأسرة تكلم في البداية عن حالة الدفء والمودة والرحمة التي ينبغي أن تزرعها أنت وأنت مسئول عنها، تزرعها مع أولادك ومع زوجتك. لا بد وأن يتعلق بك ولدك تعلقا نفسيا في البداية، وكذلك زوجتك، إلا تفعل ذلك فلن تنبعث بعده لأي تربيةٍ تريد أو ترجو أن تفعلها معهم.

الله ﷻ أراد أن تكون الحياة فيها مودة وفيها رحمة. إليك منزل رسول الله ﷺ فلنأتي إليه بسرعة البرق.. كيف كانت الحالة الأسرية عند النبي ﷺ؟ كيف بعث بحالة المودة والرحمة والدفء؟

اشترى سيدنا حكيم بن حزام –في الجاهلية– عبدا اسمه زيد ابن حارثة، تعلمون من هو زيد، ووهبه لعمته السيدة خديجة، ثم تزوجت خديجة رضي الله عنها بعد ذلك بسيدنا وحبيبنا محمد ﷺ، فصار زيد مع خديجة، فوهبته خديجة رضي الله عنها لرسول الله ﷺ. تبناه رسول الله فأصبح الناس ينادونه بنداء الشرف، يقولون “زيد بن محمد”، تبناه النبي ﷺ قبل أن ينهى القرآن عن التبني.

تخيل أن “زيدا” هذا يعيش مع رسول الله، ينام إلى جوار رسول الله، يتربى على يد رسول الله، يسمع صوت رسول الله، ينظر إلى عيني رسول الله، هو يعيش في داخل أنوار رسول الله ﷺ، أتت إليه حالة المودة والرحمة وعاش حالة الدفء الأسري الذي بعثه إليه رسول الله.

وفي مثل هذا الوقت، كان أبوه وعمه يبحثان عنه في ربوع الجزيرة العربية “يبحثان عن زيد”، فقد أُخذ عنوة وأخذا يتنقل في أسواق العبيد حتى وصل إلى مكة، فأخذا يسألان عنه فدلا إلى مكة، فأتى أبوه ومعه عمه، أتيا إلى رسول الله ﷺ وجلسا بين يدي رسول الله، [انظر هذا مثال لحالة الدفء]، جلسا بين يدي رسول الله ﷺ، وتحدثا معه حديثا قيما رائعا متحضرا محترما.

قالا له: يا محمد، أنت ابن عبد المطلب، وأنت بن سيد قومك، عرفناكم أهل الحرم وجيرانه، تفكون الأسير، وتطعمون الجائع، وتغيثون الملهوف، وإن لنا ابنا عندك، نريد فداءه، فامن علينا بفدائه، ونعطيك ما تشاء أن أردت. قال النبي ﷺ: من هذا الذي تريدون؟ قالوا: زيد ابن حارثة. قال: أوغير ذلك؟ قالوا: بل ذلك. قال: إذا فادعوه فليأت، فإن اختاركم فهو لكم دون أي فداء، وإن اختارني فما كنت لأرد من اختارني. قالوا: لقد مننت علينا وصدقت، هذا لك. فدعوا زيد بن حارثة.

أبوه وعمه يتوقعان أنه سيأتي إليهما بشيء من التلهف. فلما أقبل نحو النبي ﷺ، قال له رسول: يا زيد أتعرف من هذا؟ قال: أبي، قال: وتعرف من هذا؟ قال عمي، قال: وأنا محمد ﷺ، فإن اخترتهم فأنت لهم، وان اخترتني فما كنت لأردك.

نظر زيد إليهما، ثم نظر للنبي واعتنقه، وقال: ما كنت لاختار عليك أحدا يا رسول الله.

أنت الهوى والحب يا غاية المنى، ومثواك ما بين الحشا والتراقي سكنت بقلبي وامتزجت بمهجته، فمتى يا حبيبي يكون التلاقي؟ فمتى يا حبيبي يكون التلاقي؟

وظل زيد مع رسول الله، وتركاه وانصرفا، ظل مع رسول الله ليعيش حالة المودة، ليعيش حالة الدفء، ليعيش حالة الأسرة، ليعيش الجنة في الآخرة.

وقد قال رسول الله ﷺ «ما مِن عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْها بنَصِيحَةٍ إلا لَمْ يَجِدْ رائِحَةَ الجَنَّةِ» رواه البخاري.

هذا هو رسول الله وهذا بيته، فكيف بيوتاتنا؟ كيف بيوتنا مع أولادنا؟ كيف نحن مع أزواجنا؟ كيف صارت حالة العدائية في داخل البيت الواحد؟ لماذا يشتكي الوالد من ولده والعكس صحيح؟ لماذا ينفر الولد من بيت أبيه ويحاول أن يهرب إلى بعيد؟

إنه رسول الله، وهذه هي الحالة التي أرادها رسول ﷺ، حالة المودة والرحمة.

ثم ماذا؟ في داخل الأسرة، مهم للغاية أن تعيش مع أولادك حالة العبادة، لن تصل لمودةٍ ولا لرحمةٍ إلا بالله ﷻ، لا بد وأن يعيش الناس جميعا في كل مستوياتهم في بيوتهم وفي خارجها، لا بد للجميع أن يعيش تحت طائلة هذه الآية، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

هذه الآية تطبقها في بيتك مع أولادك؛ يقيمون الصلاة وأنت تؤتي الزكاة، مع بعضكم تطيعون الله ورسوله. هكذا ينبغي أن يعيش البيت المسلم.

عبد الملك ابن عمر ابن عبد العزيز، كان ولدا صالحا لوالد صالح، كان صغيرا في السن صبي، كثيرا ما يُرشد أباه إلى حالة الحق، وكان به مسرور، لما اقبل إلى لحظة الموت [انظر إلى الأسرة كيف تتحدث، انظر إلى حالة التواصي، انظر إلى حالة المودة، انظر إلى الله ورسوله داخل الأسرة]، أقبل عمر بن عبد العزيز، ينظر إلى ولده المُسجّى.. عبد الملك الآن تسعة عشر عاما، نظر إليه فقال: يا عبد الملك كيف تجدك؟ قال: يا أبتي أجد الموت، أشعر بأنها الغمرات،  قال له عمر بن عبد العزيز: يا ولدي والله لأن تكون في ميزاني أحب إلى من أن أكون في ميزانك. [يعني لأن تموت فأصبر على فقدك وتكون في ميزان حسناتي يوم القيامة هذا أحب إلى من أن أموت أنا قبلك، وتصبر أنت على فقدي فأكون في ميزان حسناتك أنت].

قال له عبد عبد الملك: يا أبتي والله ما تحبه أنت أحب إلى مما أحبه أنا.

خرج عن الدنيا وانصرف ومات، فلما مات وقف عمر بن عبد العزيز على قبره، وقال: اللهم إن عبد الملك كان بي بارًّا، ومنذ أن أتى إلى الدنيا ما زلت به مسرورا.

أنا الآن أسأل الأولاد: هل أبوك مسرور بك؟ هل أنت بارّ به؟

يقول عمر بن عبد العزيز: والله يا ولدي كنت بي بارا، وما أعطاني الله وما أعطاني وما منحنى الله بك إلا وكنت بك مسرورا، إلا وكنت بك مسرورا.

فلما دفنوه تحت إدراج التراب، قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إنك قلت وقولك الحق، ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. وإني أشهدك أن عبد الملك كان أفضل زينتها عندي، وقلت وقولك الحق ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا﴾، اللهم كما جعلته للدنيا زينة فاجعله لي للآخرة من الباقيات الصالحات.. ثم قال للناس: استغفروا لعبد الملك. ثم نظر إلينا نحن وهو على قبر ولده، وقال: اللهم اغفر لعبد الملك ولمن استغفر الملك إلى يوم القيامة.

استغفروا لعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فإن من استغفر له له دعاء من والده عمر أن يغفر الله ﷻ له.

هذا هو النشء الطيب، خرجوا من الدنيا على صالحات، خرجوا من الدنيا يتواصون بطاعة الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

⇐ وهذه: ضوابط بناء الأسرة.. خطبة جمعة مكتوبة وجاهزة

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله.

وآخر لقطة أريد أن ابعثها لكم، من الأسرة المباركة، من الأُسَر التي تتحلى بالإيمان، أسرة سيدنا معاوية –رضي الله عنه– وأرضاه، أصاب أولاده جميعا الطاعون، وزوجته كذلك، فلما أقبل الطاعون على ولده عبد الرحمن أتى إليه معاوية وجلس إلى جواره يريد أن يكون إلى جواره يثبته في اللحظات الأخيرة، قال له: يا عبد الرحمن كيف تجدك؟ قال: يا أبتي إنه الموت، قال وكيف حالك؟

[أنت الآن علمت أنك ستموت، فكيف حالك مع الموت؟ الولد الآن يلقي بهدية لأبيه ليطمئنه بها وليعلن منهجه].

قال له: يا أبتي ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، فتبسم معاوية رضي الله عنه، وقال ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فمات، انتقل من الدنيا إلى الآخرة، لكن كيف كان انتقاله؟ انتقاله كان انتقال تواصي، تواصي بالحق، وتواصي بالصبر، وكان ولده هكذا.

ونحن نريد من أولادنا أن يصعدوا إلى الخير، خير الدنيا وخير الآخرة، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ ماذا سيحدث؟ ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.

  • اللهم إنا نسألك التقى، نسألك الهدى، نسألك العفاف، نسألك الغنى.
  • اللهم إنا نسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.
  • نسألك عيشة هنية، ميتة سوية، مردا غير مُخزٍ ولا فاضح.
  • لا تفضحنا بين خلقك ولا تفضحنا بين يديك..

آمين آمين.. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

⇐ ونترككم لتكملوا الاطلاع؛ مع هذه الخطبة الرائعة، وهي: خطبة عن الأسرة السعيدة المستقرة – مكتوبة

أضف تعليق

error: