خطبة: صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين – مكتوبة

صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين، خطب مكتوبة، خطبة الجمعة

عناصر الخطبة

  • الإسلام دين عظيم وهو يعظم كل من يدخل فيه.
  • الشهور عند الله اثنا عشر شهراً وهذه الشهور هي وعاء تاريخ المسلمين وما وقع فيه من انتصارات فأضحت صفحات مشرقات.
  • نعيش هذه الأيام في شهر رجب الخير الذي كثرت فيه المعارك والغزوات وأصبحت نتائجها نفائس في الدفاتر والسجلات.
  • من الغزوات في شهر رجب الخير عبر السنوات غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة ومعركة اليرموك في السنة الخامسة عشرة للهجرة في شمال أرض الأردن الحبيب.
  • كان للنساء في اليرموك دور عظيم جعل صمود الرجال في المعركة كالجبال الرواسي.
  • وللمسجد الأقصى المبارك نصيب من بركات شهر رجب لقد تحررت في من أسر المعتدين بعد مئة من السنين العجاف.
    إن الصبح الذي بان للأجداد من تاريخنا سيعود من جديد مهما طال الليل فإن الشمس تشرق بعد غياب.

الخطبة الأولى

نتفيأ في هذه الأيام المباركة ظلال شهر رجب المحرم، وهو شهر عظيم من الأشهر الحُرم التي أمر الله ﷻ بتعظيمها والحرص فيها على المزيد من الطاعة والتمسك بالدين؛ فقال جلّ وعلا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]. وقال النبي ﷺ: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا؛ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» ← صحيح البخاري.

والواجب على المسلم أن يعرف قدر هذا الشهر الكريم، كما يجب عليه أن يحذرَ من المعصية فيه؛ فإنّ المعصية في الأشهر الحُرم ليست كالمعصيةِ في غيرِها؛ بل المعصيةُ فيها أعظمُ؛ كما قال ﷻ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ البقرة: 217.

وفي شهر رجب الأغرّ، تجلت مكرُمات الله ﷻ على المسلمين، وهبّت نسائم تحمل عبقاً من الصفحات المشرقة التي مرّت على تاريخ أمتنا، لتذكرنا دائماً بأننا أمة بعثها الله ﷻ لنشر الخير والرحمة والسلام بين الأمم، وأننا أمة مهما ضعفت أو أصابتها النوائب فإنها أمة لا تموت، لأنها أمة خير الأنبياء والمرسلين، وتاريخها مليء بالبطولات والانتصارات على قوى الجهل والظلام التي كانت تخيّم على أمتنا وأوطاننا، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة: 143.

ففي شهر رجب وقعت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وهي من أهم الغزوات في تاريخ المسلمين، لأنها أثبتت للعالم قوة المسلمين وتوحد العرب حول لواء واحد هو لواء الإسلام، مما شكل قوة لا تُقهر مع الإيمان بالله ﷻ والتوكل عليه في تحقيق النصر، فالجيش الذي غادر مؤتة قبل سنوات قليلة بثلاثة آلاف مقاتل ها هو يعود إلى تبوك بعشرة أضعاف ذلك الجيش، بينما بلغ جيش الروم أربعين ألفاً، فلما رأى الروم هذه الأعداد من المسلمين دبّ الرعب في قلوبهم وولوا مدبرين دون أن يحدث قتال بين الطرفين، مما مهد للمسلمين البدء بفتوح بلاد الشام، وتأمين المنطقة الجنوبية منها.

ومن أهم الدروس المستفادة من غزوة تبوك إظهار الله ﷻ لمعدن المؤمنين الصابرين وبيان حرصهم على نصرة نبيهم، فقد سمّيت هذه الغزوة بغزوة “العسرة”، بسبب الصعوبات والعقبات التي واجهت المسلمين في تجهيز الجيش إضافة إلى ما كان المسلمون يواجهونه من ظروف بيئية صعبة، ففي هذه الغزوة كان الجو شديد الحرارة والأرض مجدبة، والأموال شحيحة، حتى قال النبي ﷺ «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ» ← متفق عليه.

فقدم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كل ماله، وقدم عمر بن الخطاب نصف ماله، وأما عثمان بن عفان فجهز وحده ثلث الجيش رضي الله عنه وأرضاه، لكن كل هذه الصعاب تهون امتثالاً لأمر الله ﷻ الذي أنزل في هذه المعركة: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ التوبة: 41.

ودفاعا عن الإسلام والحفاظ عليه ضد المتربصين من الروم الذين حاولوا النيل منه ومهاجمة المسلمين في ديارهم، وبعد أن قام المنافقون بمراسلة الروم وحياكة المكائد وارتكاب العديد من الجرائم في حق رسول الله ﷺ وحق المسلمين، كبناء مسجد الضرار الذي أصبح مركزاً لتجمع المنافقين، وعدم مناصرتهم للنبي ﷺ لقتال الروم في تبوك، لذلك فإن من أهم نتائج هذه الغزوة هو فضح هؤلاء المنافقين وبيان كذبهم وكيدهم للإسلام والمسلمين، لذلك سميت سورة التوبة التي تكلمت عن هذه الغزوة بـ “الفاضحة”.

وبسبب جميع هذه المصاعب التي واجهها المسلمون في هذه الغزوة والنتائج المهمة التي تمخضت عنها جاءت البشارة من الله ﷻ للمؤمنين الصابرين الصادقين الذين بذلوا كل ما يملكون امتثالاً لأمر الله ﷻ ورغبة فيما عنده ودفاعاً عن دينهم وأوطانهم، قال الله ﷻ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة: 117.

وفي شهر رجب وقعت معركة اليرموك المعركة الفاصلة التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام وأرض العرب، وخضعت هذه البلاد إلى حكم الحق والعدل، وانتشر فيها الإسلام، وقد حدثت هذه المعركة في السنة الخامسة عشرة للهجرة في منطقة اليرموك بالقرب من الحدود بين سوريا والأردن وقد اختار الروم هذا الموقع لأنه المكان الذي يتسع لجيشهم الضخم الذي عدده مائتان وأربعون ألف مقاتل، ووصل الغرور والطغيان بالروم إلى أن قال قائدهم: “لنشغلنّ أبا بكر والعرب وأنفسهم عن تورّد بلادنا”، ثم نزلوا الواقوصة مستعلين –وهي منطقة تشرف على وادي نهر اليرموك–، فبلغ ذلك أبا بكر، فقال لمجلس الشورى: “والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد”.

وكتب أبو بكر إلى خالد يأمره بأن يستخلف على العراق ويتجه بخيرة جنده إلى الشام ليكونوا مدداً لإخوانهم، فخاض المسلمون تلك المسافة الكبيرة في خمسة أيام فقط، وعانوا المخاطر والصعاب في عبور الصحراء حرصاً منهم على نصرة إخوانهم، كما خرجت الروم في تعبئة لم ير مثلها قبلها قط.

وفي هذه اللحظات الفارقة في التاريخ، وعندما بدأت الحرب تقرع طبولها، ومصير المسلمين على المِحك، يصل إلى الجيش خبر وفاة أبي بكر الصديق، ويبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه برسالة إلى أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح يبلغه فيها بوفاة الخليفة، وقرار عزل خالد بن الوليد وتعيينه قائداً عاماً للجيش.

لكن أبا عبيدة رضي الله عنه، كان مدركاً لتأثير هذه التغييرات المصيرية على سير المعركة، قرر أن يتخذ القرار الصائب من منطلق وجوده وخبر بأرض الميدان ومعرفته بمعطياته، فقرر كتمان الخبر عن المسلمين، وتعيين من يراه أكفأ منه في إدارة المعركة حتى تستقر الأمور، فلا تحدث القلاقل، ولا يتزعزع الجيش أو تنهار معنوياته بفقدان خليفتهم وعزل قائد جيشهم خالد بن الوليد الذي ذاقوا معه طعم النصر، ووثقوا بقدرته على إدارة المعارك، فكان أبو عبيدة عامر بن الجراح أميناً لهذه الأمة قولاً وعملاً كما أخبر عنه رسول الله ﷺ، وبقيت القيادة في يد خالد بن الوليد رضي الله عنه.

وهنا تظهر عبقرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في القتال وحسن التخطيط وإدارة المعارك، كما يظهر حُسن اختيار أبي بكر رضي الله عنه حين وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واختار الكفء صاحب الجدارة في إدارة الأزمات، وفي اليوم السادس من أيام العركة يبدأ هجوم المسلمين على الروم، حيث قام خالد بن الوليد بهجوم حاسم، وبدأت جيوش الروم بالترنح أمام ضربات جيش المسلمين، وكان باهان قائد الروم يراقب الوضع.

فلما لاحظ تراجع مقدمة رجاله التمس له ولفرسانه طريقاً للنجاة، فلاحظ خالد ذلك، ففتح له ثغرة نفذ منها، وانسحب بأربعين ألف فارس، وحمل المسلمون على ما تبقى من الجيش البيزنطي، فاضطروا إلى حافة وادي اليرموك دون وعي، فسقط أكثرهم في الواقوصة، فامتلأ الوادي حتى حافتيه بقتلى جنود الروم، حتى قيل إن من هلك منهم في الواقوصة بلغ سبعين ألفاً أو يزيد، واستشهد من المسلمين ثلاثة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين، الذين صدقت في بعضهم دعوة النبي ﷺ: «أرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» ← متفق عليه.

وانقشعت المعركة عن نصر حاسم للمسلمين الذي لم يكن ليتحقق لولا استبسال المسلمين في قتالهم الأعداء، وحرصهم على الدفاع عن دينهم وأوطانهم، وحماية بلادهم من الطامعين للنيل منها، واستنزاف خيراتها، إضافة إلى حسن تقدير حجم المعركة، وإمكانيات الجيش، وتسليم المهمة للأكفأ والأجدر بها بناءً على قدراته وخبراته كما فعل أبو عبيدة رضي الله عنه، وحسن التنظيم والتفاني في العمل والتخطيط والإدارة من قبل خالد بن الوليد الذي أدار المعركة على خير وجه.

ويبلغ خبر النصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سهر ثلاثة أيام كاملة يترقب الأخبار ويدعو الله ﷻ بالنصر والتمكين، حتى يأتيه الخبر اليقين بنصر المؤمنين فيخر لله ساجداً شاكراً على نعمة النصر والتأييد.

كما شاركت النساء في معركة اليرموك وكان لهن الدور المهم في المعركة فلم ينعزلن عن نصرة المسلمين، فقمن بواجبهن في مداواة المرضى وحث الجنود على القتال وبث الروح المعنوية كما شاركن في القتال إلى جنب الرجال.

ومن النساء اللاتي استبسلن في القتال أسماء بنت يزيد بن السكن، وأسماء بنت أبي بكر التي قاتلت إلى جانب زوجها الزبير بن العوام، وخولة بنت الأزور التي كانت تقاتل الروم بسيفها.

فهؤلاء هنّ الصحابيات الكريمات، وبنات الصحابة الكرام، اللواتي تربين في مدرسة النبي ﷺ، يظهرن في الشدائد ووقت الملمات العظام، يركبن الخيل، ويحملن السيف والعمد والحجارة، ويخُضن الصفوف، ويداوين الجرحى، فحققن مع الرجال النصر على الروم، ودخلت بذلك أرض الشام إلى حوزة الإسلام، فكانت المرأة المسلمة على قدر الثقة والمسؤولية، وعلى قدر عالٍ من القوة والكفاءة في الدفاع عن الدين والذبّ عن حياضه، وما معركة اليرموك إلا خير شاهد ودليل على أهمية دور المرأة في تحقيق النصر والنجاح.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.

عباد الله؛ لقد احتل الفرنجة المسجد الأقصى سنة 492هجري وارتكبوا فيه أفظع الجرائم في تاريخ الإنسانية، قتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفاً حتى صارت خيولهم تخوض في دماء المسلمين الزكية التي أراقتها سيوفهم.

عاش الأقصى المبارك أسيراً حزيناً مئة سنة يرفع عقيرته وصوته صباح مساء ينادي أهله الحيارى هلموا لتخليص حبيبكم من ظلم الظالمين.

وفي شهر رجب عام 583 هجري لبى نداء الأقصى القائد المسلم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ﷻ.

فقاتل العدو وخلص الأسير من أسره ولم يفعل كما فعلوا وإنما تذكر الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال لمن حرضه على سفك الدماء إن قدوتي سيدي عمر رضي الله عنه.

دخل المسجد الأقصى بتواضع اهل الإيمان وأمر بتنظيفه من قاذورات خيولهم التي كانوا يعلفونها في هذا المكان المبارك ثم وضع المنبر الذي صنعه في حلب وحمله إلى حبيبه المسجد الأقصى المبارك.

عاش الأقصى سعيداً منيعاً يزوره المسلمون من كل مكان حتى اعتدى اليهود على المسجد الأقصى بعد مئات السنين اغتصبوا المسجد الأقصى فصار اسيراً يتلقى الأذى والإيذاء والاعتداء بما يجعلوا قلوب العقلاء تقشعر من هول ما يفعلون من اعتداءات صباح مساء، وما يفعلونه الآن في المسجد الأقصى وباب الرحمة الذي يحمل اسم الرحمة وهم لا يعرفون في أفعالهم حروف الرحمة.

إن المتطرفين اليهود يفتخرون بتطرفهم ويزعمون أنهم أبناء الهيكل المزعوم، يرى العالم ما يفعلون عبر شاشات التلفزة والناس نيام تغط عواطفهم في نوم عميق.

إن الاحتلال قد استمرأ هذه الاعتداءات حتر صارت كالماء للعطشى، إنهم يفعلون افعالهم العدوانية على أقصانا ولا يجدون رادعاً يردعهم ولو بصوت يرتفع.

لقد نسي العرب والمسلمون أقصاهم واقصوا الكلام في شأنه من ألسنتهم ولم يبق إلا صوت أسد آل هاشم في عرينه لا تلين له قناة وهو ينادي بأعلى صوته أيها العرب إنها قدسكم وإن المسجد الأقصى المبارك هو أولى القبلتين.

ومن اليقين أن تحرير المسجد الأقصى المبارك سيكون مهما تلبدت السماء بالغيوم فإن الغيث آت لا محالة.

والحمد لله رب العالمين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top