عمارة الأرض والاستخلاف.. خطبة في منتهى الأهمية

تمت الكتابة بواسطة:

عمارة الأرض والاستخلاف، خطب مكتوبة، خطبة الجمعة

عناصر الخطبة

  • وجوب عمارة الأرض لتحقيق مصالح الأنام تحقيقاً لقوله ﷻ “واستعمركم فيها” والسين في الآية فيها طلب الإعمار.
  • رسول الله ﷺ حريص على دوام الإعمار حتى تقوم الساعة” وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.
  • عمارة الأرض في الإسلام تعني الإصلاح لا الإفساد، تعني البناء لا الهدم.
  • عمارة الأرض تعتمد تحقيق التوازن بين الروح والبدن لينعم الإنسان في الدارين ويسعد.

الخطبة الأولى

إنّ من أعظم نعم الله ﷻ على الإنسان أنه خلقه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، قال الله ﷻ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ الإنسان: 1.

وقد خلق الله ﷻ الإنسان لأمر عظيم ومهمة جليلة، فالإنسان هو خليفة الله ﷻ على هذه الأرض، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة: 30، وهو المخلوق الذي أعزّه الله ﷻ ورفع قدره ومكانته وأمر الملائكة بالسجود له، قال ﷻ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ البقرة: 34، وهو الإنسان الذي كرّمه الله ﷻ فقال ﷻ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ الإسراء: 70.

وقد منح الله ﷻ الإنسان مقومات العيش، والأسباب التي تعينه على القيام بمهمة الاستخلاف العظيمة، فأصلح له الأرض التي سيعيش عليها، وأصلح له معاشه وخلقه في أحسن تقويم ليستطيع القيام بمهمته التي وكّله الله ﷻ بها وهي حمل أمانة الدين والتعرف على الله ﷻ وطاعته، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب: 72.

وأمر الإنسان بالمحافظة على مقومات الحياة، ونهى عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، قال ﷻ ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ الشعراء: 151-152.

كما أفاض على الإنسان من النّعم ما لا يحصى، وسخّر له ما في الكون، وعلمه الانتفاع بما استودعه في الأرض من أسرار ومكنونات، فقال ﷻ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ إبراهيم: 32-33، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ النحل: 14.

فهذه الأرض الممهّدةُ لعيش الإنسان، المملوءةُ بما فيها من موارد وخيرات وما يخرج منها من ثمرات، المجهزةُ بما أعدّ فيها من مطعم ومشرب، وما يتخذه الإنسان فيها من زينةٍ وملبس ومركب، هذه النعم كلّها أعدّها الله ﷻ بفضله وكرمه، قال ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ الملك: 15.

ولم يخلق الله ﷻ كلّ ذلك عبثاً بلا غاية، بل أوجب على الإنسان أن ينظر في هذا الكون ويسبر أغواره، ليعرف الله ﷻ ويعبده حقّ عبادته، ويُعمل عقله وفكره للوصول إلى معارف الكون وأسراره والاستفادة من كلّ مكوناته، وهذا ما يحثّ عليه الإسلام عقيدةً وعملاً وسلوكاً، وذلك من خلال الأمر بعمارة الأرض والنهي عن الإفساد فيها، قال الله ﷻ: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ هود: 61، وقال سبحانه: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 56.

فعمارة الأرض وإصلاحها لا بد أن تكون متوازنة في شتى مجالاتها ومختلف عناصرها ليصل الإنسان إلى سعادته وتقدّمه ورقيِّه وصلاح دنياه وآخرته فيعيش المجتمع في جو من الانسجام الإنساني الذي يجمع بين بني البشر، ويؤلف بين قلوبهم وقد تمثلوا في أنفسهم وجسدوا في مجتمعهم قول الله ﷻ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة: 2.

وبهذا التعاون والانسجام المجتمعي، يحقق الإنسان جانباً مهماً من معاني العبودية لله ﷻ، وهو الجانب الأخلاقي والمعنوي في عمارة الأرض، وقد قال ﷻ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56.

وأمّا العمارة المادّية فتكون بتفعيل العلم والمعارف المادية التي تعين الإنسان على العمل والسّعي وطلب الرّزق، والأخذ بأسباب الحياة التي بثّها الله ﷻ في الأرض، واستثمار مكنوناتها وما أودع في خزائنها، وقد حثّ الإسلام على الاجتهاد والعمل، وحاسب الإنسان على تقصيره وإهماله اتجاه عمارة الأرض وبنائها، وعدّ ذلك انتقاصاً من أداء واجب الاستخلاف الذي أُمر الإنسان به، قال ﷻ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ التوبة: 105.

كما وجهنا القرآن الكريم ونبينا ﷺ إلى كيفية التعامل مع كل مكونات البيئة من حولنا المعاملة المثلى التي تعود بالخير على الإنسان، فالله ﷻ علّم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الحرف والصناعات لتكون مهمتهم بناء الأرض وعمارتها مادياً ومعنوياً، فقال ﷻ مخبِرًا عن نبي الله داود عليه السلام: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ الأنبياء: 80، وقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ الحديد: 25.

وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بإحياء الأرض الميتة، وحماية الحمى، وحثّنا على الغرس والزراعة، ونهانا عن تلويث التربة والماء والهواء، وحذّرنا من الاعتداء على مكونات البيئة بالنار والحرائق، بل إن النبيّ ﷺ حَرِص على توجيه الأمة وحثها على الإعمار والعمل والإنتاج، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها» رواه الإمام أحمد.

وروى البخاريُّ عن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه – أن رسولَ الله ﷺ قال: «ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا مِن أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود كان يأكلُ مِن عمل يده« رواه البخاري.

وقد حث النبيّ ﷺ على إشاعة الإعمار والبناء في المجتمعات بكل الوسائل المتاحة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً كراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه.

عباد الله: إنه مما لا يجوز شرعاً أن تستغل هذه الخيرات المادية والمعنوية في سبيل إشقاء الإنسان وتعاسته، فهو أمر لا يرضاه الله ﷻ، ولا تقرّه العقول السليمة ولا الفطرة المستقيمة، فالإسلام يرفض تسخير العلم لدمار البشرية، أو استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، أو استبداد القوي بالخيرات والمنافع، وحرمان الفقراء والضعفاء من حقوقهم الأساسية التي كفلتها الشرائع السماوية، وأقرتها القوانين الأرضية، فالإسلام عندما يأمر الإنسان بعمارة الأرض إنما يأمره بذلك لأجل أن يعمّ الخير البشرية جمعاء بدون تفرقة أو تمييز عنصري أو جغرافي أو ديني أو طبقي، بل الكلّ عباد الله مرزوقون برزق الله.

والمنهج الحضاريّ في الإسلام يرسخ معنى الخلافة في الأرض والتسخير الربانيّ لهذا الكون، وهو منهج يؤدي بالضرورة إلى العمران والبناء، ووضع المزيد من لبنات التقدم والرقي في حياة الشعوب والأمم، ولذلك بُنيت العلوم والمعارف الإسلامية على التأصيلِ السديد القويم لتفعيل هذه المعاني في حياة الأمة، وعليها قامت أسس الحضارة الإسلامية الراشدة في التعامل مع هذا الكون، وتحقيق مقاصد الإسلام، فالإنسان لم يخلق لقهر الطبيعة ولا لعبادتها، بل خُلِق لتحقيق عبادة الله ﷻ معنوياً بالطاعة، وماديا ًبالإعمار.

لذلك؛ يقول النبي ﷺ في الحديث الذي ترويه عائشة رضي الله عنها: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» رواه مسلم.

وهذه الحكمة النبوية الشريفة تجمع بين عبادة الله ﷻ والإصلاح في الأرض بعزل حجر أو شوك أو عظم من طريق الناس، حتى لا يؤدي إلى إيذائهم، وهذا ما ندعو إليه اليوم من خلال إيجاد البيئة النظيفة الخالية من كلّ ما يؤذي الناس ويكدر صفو حياتهم ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص: 77.

وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: «يا رسول الله إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، قال: فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد» رواه أبو داود، وقال عليه الصلاة والسلام لعثمان لما ابتاع بئر رومة: «اجعلها سقاية للمؤمنين، وأجرها لك» رواه النسائي.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.

عباد الله: إن الإسلام دين الحضارة والتوازن والاعتدال، والشمول والكمال، والعلم والعمل، والبناء والعمران، هكذا يفهم المسلم دينه الذي ارتضاه له ربّ السماوات والأرض، وهذا الفهم لا بد أن يشكل حافزاً للعمل بما ينهض بحال أمتنا وتشييد أعظم الحضارات البشرية، كما فعل سلفنا سابقاً عندما شيّدوا حضارة إسلامية أشاد بها العدو قبل الصديق، استطاعت بنورها أن تضيء العالم بأسره.

فلا بد من وقفة مع الذات والرجوع إلى أصالتنا ونهج علمائنا الصادقين المُصلحين لمجتمعهم وأمتهم، حين اعتبروا تعلم العلوم التي يتم بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية، لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه، كالطبِ والصيدلةِ، والهندسةِ، والجبرِ، والحسابِ، والفلكِ، والجغرافيا، والكيمياء، والفيزياء، والدعوة للنهوض بهذه الأمة العظيمة في شتى مجالات المعرفة.

وما زال التاريخ يسطر حروف هؤلاء العلماء بكل معاني الفخر والاعتزاز إلى يومنا هذا، أولئك العلماء الذين فهموا حقيقة هذا الدين، واستجابوا لأمر الله ﷻ ووصايا نبيه ﷺ في إعمار الأرض، وتطبيق السنن الربانية في الاستخلاف على الحقيقة التي يريدها الإسلام: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الجمعة: 10.

جعلنا الله ﷻ من الذاكرين الله كثيراً ورزقنا الفلاح في الدنيا والآخرة اللهم آمين.

والحَمدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِين..

خُطَب مختارة.. من أجلك يا إمام

وعقب الانتهاء من الاطلاع على خطبتنا اليوم، أراد مُحرّر موقع المزيد.كوم أن يوسق إليكم بعض المقترحات الأُخرى؛ فما رأيكُم!

وفقني الله ﷻ وإياكم لكل خير وسداد وتوفيق.


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: