خطبة: استهلال مواسم الطاعات بالتوبة النصوح – مكتوبة

خطبة الجمعة , استهلال مواسم الطاعات بالتوبة النصوح , خطب مكتوبة

استهلال مواسم الطاعات بالتوبة النصوح. هذا هو عنوان خطبة الجمعة لهذا الأسبوع؛ وأعتقد أننا جميعًا بحاجة إلى التمهّل والتفكّر فيه، وفي ما يحمله هذا العنوان من عِظات عظيمة. لكِن مهلا، المحتوى الذي سنسوقه لكم أسفَل هذا العنوان سيوضّح لكم أكثر ما يُقصَد به تحديدًا.

فهيا بنا نتعرَّف على ما لدينا اليوم في خطبة الجمعة.

مقدمة الخطبة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى سنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

أما بعد، فإن خطبة الجمعة مناسبة عظيمة تهدف إلى تبصير المسلمين بأمور دينهم ودنياهم، وتذكيرهم بشرائع الله ﷻ، ونصائح الرسول ﷺ، والتحذير من الخطايا والمعاصي التي تؤدي إلى الغضب الإلهي والعقاب في الدنيا والآخرة.

فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للخير والصلاح، وأن يجعل خطبة الجمعة هذه نافعة للجميع، وأن يعيننا على اتباع سنة رسوله الكريم، وأن يجعلنا من المؤمنين الذين يتقون الله في السراء والضراء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم آمين.

الخطبة الأولى

إن من لطف الله ﷻ بعباده، أن جعل لهم مواسم من الخير والطاعات، يقبلون فيها على خالقهم ومولاهم، ويهيئون أنفسهم للأعمال الصالحة، ولا يتحصل ذلك إلا من خلال مراجعة النفس ومحاسبتها، والتخلص من المعاصي والذنوب التي يقع العبد فيها، لينقي قلبه وجوارحه قبل الدخول في العبادات، خاصة ونحن مقبلون على شهر رمضان المبارك، وطبيعة البشر الخطأ مهما بلغوا من التقوى؛ فإنه لا بد أن يخطئوا، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون» رواه الترمذي، فالتوبة واجبة على كل من وقع في ذنب صغيراً أو كبيراً، يقول الله ﷻ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ النور:31.

ومن كرم الله ﷻ أن يقبل التوبة من عباده، فمن تاب ورجع الى الله، وجد الله ﷻ تواباً رحيماً، وإن أسرف على نفسه في المعصية، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر:53، ومن أسماء الله ﷻ التواب والغفور والعفو؛ لأنه لو لم يكن هناك ذنوب؛ لم يكنْ لمعنى العفو والمغفرة والتوبة معنى، فهو سبق بقضائه وعلمه ﷻ أن الجن والإنس يذنبون؛ فيتوب الله على من تاب، ويغفر الله لمن شاء، ويعفو عمن شاء، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ النساء:116، وقال ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ» أخرجه البخاري.

ولا تصح التوبة من العبد إلا بعد أن يقلع عن الذنب الذي وقع فيه، فالإقلاع عن الذنب هو أول أركان التوبة، فكيف يتوب من لا يزال مصراً على المعصية، قال الله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ آل عمران:135.

ولا بد ان يشعر المسلم بالندم على ما اقترفته نفسه في حق الله ﷻ أو حق من حقوق عباده، يقول ابن الجوزي رحمه الله: يا نادماً على الذنوب أين أثر ندمك؟ أين بكاؤك على زلة قدمك؟ أين حذرك من أليم العقاب؟ أين قلقك من خوف العتاب؟ أتعتقد أن التوبة قول باللسان؟ جرد قلبك من الأقذار، ثم ألبسه الاعتذار، ثم حله حلة الانكسار، ثم أقمه على باب الدار”

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

وعلى المسلم أن يعاهد الله ﷻ ويعاهد نفسه على أن لا يعود إلى الذنب مرةً أخرى، فلا تصح التوبة مع العزم على العودة إلى الذنب، وإن ضَعُف وعاد الى الذنب مرةً أخرى، فإنه لا يبطل توبته ويلزمه التوبة مرة أخرى، جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار“.

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – ﷺ -: قَالَ اللهُ ﷻ: «يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَ تُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً» رواه الترمذي، قال الحسن البصري -رحمه الله- عن التوبة النصوح: “ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود”.

واعلموا عباد الله أن المعصية إذا تعلقت بحقوق الآدميين فلا تقبل التوبة حتى يرد الحق إلى صاحبه أو يسامحه، فمن كان عنده مظلمة لأحد؛ فليبادر إلى رد المظلمة لصاحبها، وان يطلب المسامحة منه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «من كانت عنده مَظْلِمَةٌ لأخيه، من عِرضِه أو من شيءٍ، فلْيتحلَّلْهُ منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم؛ إن كان له عمل صالحٌ أُخِذ منه بقدر مَظلِمتهِ، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه» رواه البخاري.

ومن فضل الله ﷻ، أنْ وعدَ عباده المؤمنين بستر الذنوب ومغفرتها لهم ما لم يجاهروا بها، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:«كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» متفق عليه، فإذا أخطأ العبد ثم عاد وأناب، فإن الله يبدل سيئاته حسنات، قال الله ﷻ: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ الفرقان:70.

هذا وقد جعل الله باب التوبة مفتوح للعبد ما لم تطلع الشمس من مغربها: عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله ﷻ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم، وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة للذين يعملون السيئات ويقترفون المعاصي، ويستمرون على ذلك، فإذا حضر أحدهم الموت، قال: إني تبت الآن، أي قال في هذا الوقت الذي لا فائدة من التوبة فيه، قال ﷻ: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ النساء:18، وقال ﷺ: “إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرغرْ” رواه الترمذي.

قال الحافظ ابن رجب: كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت، وبكى معاذ عند موته وقال: إنما أبكى على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، وبكى عبدالرحمن بن الأسود عند موته وقال: وأسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. وبكى يزيد الرقاشي عند موته وقال: أبكى على ما يفتوني من قيام الليل وصيام النهار. ثم بكى.

وقال الإمام ابن الجوزي: اندم يا مسكين على ما صنعت وفات، وأصلح بالتوبة النصوح ما هو آت، من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ليس للظالمين من نصير، ولا للعاصين من مجير، ولا لأحد من ملجأ ولا نكير.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.

ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”، ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”.

ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.

والحمد لله ربّ العالمين

أضف تعليق

error: