كنت بين مليوني حاج – فاللهم لا تجله آخر العهد بالبيت.. ولا بالضيافة

كنت بين مليوني حاج – فاللهم لا تجله آخر العهد بالبيت.. ولا بالضيافة

أكرمني الله بالحج هذا العام للمرة الثانية، وأن أحجها لأبي رحمة الله عليه لأنه مات قبل أن يؤدي الفريضة، ومن هناك بل ومن هنا اسمحوا لي أن أشارككم ملاحظاتي وتأملاتي ومشاعري.

يوم السفر – ولو إني من معتادي السفر – إلا أني كنت متوترة.. طائرتي كانت ليلا فى الثامنة والنصف، يعني يجب أن أكون في المطار حوالي السادسة، حاولت النوم ولكني فشلت، كنت أبحث عن شيء أفعله.. شيء يجعل الوقت يمر وأجدنى هناك، لا أدعى أنه كان شوقاً.. كما قلت كان توترا، هل تتصور أنه من السهل على أي إنسان أن يعرف أنه ذاهب ليكون ضيفا على الرحمن؟؟.. إن زيارة أى شخصية لها ولو جزء من الأهمية يستعد لها الناس استعدادا، فما بالكم بزيارة الرحمن، وأن تكون ضيفا عليه وهو من دعاك، فهذه زيارة لا تتم إلا بدعوة.

ربما كان ذلك هو السبب .. خوفي ألا تتم الدعوة ويحبسنى حابس، فلقد كانت حجتى هذا العام على فيض الكريم.

في المطار وفي قاعة انتظار الصعود للطائرة وجدت تشكيلة من الخلق؛ بعض الرجال أحرم وهذا يدل على نيتهم، والآخرين يبدوعليهم أنهم مسافرون للأهل والأزواج أو العمل.. كانت هناك سيدة كبيرة –لا أريد أن أقول مسنة فربما كنا فى نفس السن– يضايقها جرى الأطفال ولعبهم وكانوا خمسة، ما أسهل أن يتصادق الأطفال، أختان فقط والباقى كان لقائهم فى المكان، رأيتها تهدد بإبرة في حقيبتها وإنها ستشكهم بها إن لم يصمتوا ويكفوا عن الجري .. فى البداية تصورتها الجدة، ثم اكتشفت أنها فقط تمارس هوايتها فى التربية بالتخويف.

والأطفال لا تخاف.. يجري كل واحد إلى أمه يلوذ بحجرها وينظر للمرأة بطرف عينه ثم حين يطمئنوا أنها نظرت في اتجاه آخر يعودوا للعبهم .. وهى تعود لإبرتها التى تطل من كيس الدواء في الحقيبة.

بدأ توتري يهدأ مع مراقبة الناس، عجيب أمر البشر، سبحان من أودع في كل قلب ما يشغله، مكالمات الجوال لم تنقطع؛ ما بين أخبار أننا في المطار ننتظر الطائرة، إلى “أخبرى عمك أننى سأرسل الأوراق حال وصولى”، أو مجرد دردشة لتمضية الوقت.

لم يختلف الوضع كثيرا في الطائرة، ثم كان مطار جدة، بما أننا لسنا الطائرة الوحيدة من الدولة الوحيدة فلك أن تتخيل العدد، وأشهد الله أني ما رأيت مثل هذه السهولة في إتمام الأوراق والدخول، مطار بأكمله مستنفر وشباب مثل الورد يحاول أن يبتسم، رغم الإرهاق، بوجوههم السمراء وملامحهم العربية القحة، حتى لقد حاول الضابط الذي مررت أمامه أن يبحث عن تعليق أو “قفشة” مصرية عند مروري أمامه.

أم العرب.. المصرية

لم نذهب إلى منى يوم الثامن، وهذا يختلف عن حجتي الأولى، بدأنا المناسك يوم التاسع بعد الفجر، فنزلنا إلى مكة وطفنا للقدوم، كان الحرم نصف خالي والجو لطيف، أحب النظر إلى الكعبة أثناء طوافي، أشعر بها وكأنها صديق أو حبيب، كيان غالي بيني وبينه حوار في قلبي.

كان العمال يمدون الكسوة الجديدة عليها بمجموعة من السقالات المتحركة.. القماش الجديد لامع، الحرير الأسود أشبه بليل نظيف، والذهب والفضة يضيئان ببريق خاطف تحت أشعة الشمس الوليدة، غمرتني سعادة طفولية، إنها ترتدي ملابس العيد.

تتغير من حولي نغمات الدعاء حسب اللكنة واللهجة واللغة الأصلية، بيني وبين نفسي أفرد لكل شوط تسبيحة حتى لا أنسى العدد : سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. خمسة، ثم لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وأختم السابع بالله لا إله إلا هو الحيى القيوم له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.

مر الطواف بسلام ونعومة، ثم كان سعي الحج، نصحني زوجي أن أسعى على أحد الكراسي حتى لا أجهد ولكني رفضت، منذ فترة وأنا أمارس رياضة المشي ولم أكن أشعر بتعب.. حين تصعد إلى الصفا أول مرة لتقول: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم.

رأيت أم العرب :هاجر.. يا إلهي.. لم تكن الأرض رخام ولا السقف مرفوع، كان الحصى تحت قدميها بسخونته الحارقة، والشمس فوق رأسها بلا رحمة، هذه المرأة الطاهرة مظلومة في التاريخ، إنها أميرة مصرية كما يقول من يرفضوا فكرة أنها كانت جارية أهداها فرعون مصر لسارة، وأنا لا يهمني إن كانت أميرة أو جارية.. هي شابة مصرية، ليست من بيت النبوة – سارة ابنة عم سيدنا إبراهيم – ولم تسمع أو تعرف شيئا عن التوحيد ووجود الله وقيوميته على الأرض إلا منذ دخلت بيت نبي الله إبراهيم، فمن أين جائها هذا اليقين الذى يبحث عنه الناس كل يوم؟، من أين استخرجت الرضا بقدرها وقد “رماها” –هذا ما يظهر لأي عين– زوجها النبي الطيب في الصحراء بلا زاد ولا ماء؟!.

ما هذه القوة والثبات: آلله أمرك بذلك؟.. إذن فلن يضيعنا.

يا إله السموات.. ليتني أستطيع التآسي بك يا أمه، مادام هذا امر الله فعليه التكلان وهو لن يسيئنا ولن يضيعنا.

أفقت على صوت زوجي وهو يقول مالك؟ بتعيطى ليه؟ كل ده تأثر.

ابتسمت ولكني لم أرد.. كنت قد قطعت أربعة أشواط وأنا أفكر في هاجر الشابة الصغيرة التى وضعت وليدها حديثاً ولكنها تجري بين الجبال بعزم أم ترفض أن تستسلم، بعزم فلاحة مصرية واسعة الحيلة تعرف أن الله سيرسل من ينقذها هي وابنها وتبحث عنه وراء الجبلين.

بعد السعي كانت عرفات.. ولعرفات في قلبي أعظم مكانة، ففي حجتي الأولى كنت أشعر بالتيه، ولا أعرف ولا أفهم أين هي العبادة في هذا الحج الذي يقولون أنه أعظم ركن في الإسلام؟، من خيمة لشارع لسيارة حتى جاء عرفات، وهناك من ثمانية عشر عاما شعرت أن السماء عند أطراف أصابعي.

على عرفات

في الطريق إلى عرفات نمر أولا على نقاط التفتيش، رفعت المملكة شعار “لا حج بلا تصريح ولا للافتراش”، طبعا نحن لا نحج بلا تأشيرة، وهذا الشعار للمقيمين فيها سواء أهلها أو غيرهم، ومع تنبيهات القائمين على الرحلة بتجهيز الأوراق والتأشيرة لأن المسألة صارمة وصعبة و”احنا مش عاوزين مشاكل”.. صعد ضابط شاب إلى الأتوبيس.. نظرت إليه مع الجميع بتوجس، فما كان منه إلا أن ابتسم ضاحكا أمام وجوهنا المغلقة بالترقب ليهدئ من الموقف وقال : “انتم رايحين ترجموا واللا ايه؟”.. خف التوتر وبسرعة عادت الحافلة للحركة.

في عرفات يجلس الناس من حولي.. البعض بيده مصحف والبعض يتكلم وآخرين ناموا.. وبمناسبة النوم لا أعرف ما هي علاقة مناسك الحج بالنوم، الكل ينام، فى كل مكان يفترش الناس الطريق من عرفات وطوال الطريق وفي مزدلفة، هنا فقط فهمت الجزء الثاني من الشعار.. لا للإفتراش.. يارب السماء كل هذه الأعداد المفترشة تسللت بلا تصاريح؟!.

“صعبان عليّ العسكر الصغار”: شباب جميل يحاولون التنظيم بكل طاقة وجهد، وللأسف وبكل أسف، لماذا العرب بوجه عام غير منظمين، لا أستطيع أن أقول المصريين؛ فالحج لا يقتصر عليهم، كان في خطة المنظمين أن نرجم العقبة الكبرى بعد منتصف ليلة التاسع، وطريق الجمرات في منى من أروع ما يمكن أن يكون، لم أرجم بل لم أتحرك من الخيمة في حجتي الأولى، ولكن ما أراه هذا العام يجعل أي إنسان يتحرك بسهولة ويسر بين المناسك، كم كبير من اليافطات الإرشادية المبينة والموضحة لدرجة أن أحد الحجاج قال: “ايه الحلاوة دى .. إشارات الطريق دى مش بتاعتنا ..ده احنا كإننا فى ألمانيا .. لو حتى عاوز تتوه مش حتعرف تتوه”.

نصعد طريق الجمرات، واسع ونظيف، حتى نصل إلى الشيطان الأكبر، شكله لطيف مثل حوائط الفيلات في الساحل الشمالى، أعرف أنه رمز وأن هذا ليس تمثالا للشيطان ولا دياولو، وإلا لكان قد مات من سنين وتخلصنا منه، وتذكرت سذاجة أجيال مضت حين كنت أسمع من الأهل والأقارب وأنا صغيرة أنهم يجمعون الأحذية والنعال ويرجموا بها مع استعمال وصلة من السباب التي يعاقب عليها قانون الأداب العام ساخطين على هذا ابن “….” الذي يتسبب لهم في الذنوب، وكنت أرى سعادة الظفر على وجوههم وكأنهم انتقموا منه وقضوا عليه فعلا.

أجيال كثيرة فاتت كانت معرفتها بالدين سطحية ويشوبها خزعبلات، وأجيال أخرى حالية أكثر دراية ومعرفة ولكن يشوب معرفتها ضيق أفق ونظرة جامدة لا تتحرك ولا تتغير.

قرأ معنا المشرف على الرحلة كتاب عن الحج والعمرة أثناء سير السيارة موضحا وشارحا التخفيف الذي استقر عليه العلماء والسعة التى توصلوا إليها في أداء المناسك وأوقاتها حتى يتم إنقاذ الناس من الموت الذى كان يتربص بهم خلف كل ازدحام.

ولدهشتي رفض كثيرين الكلام مصرين على ما تعودوا عليه من قبل، وكأن الإنسان لا يصبح متدينا إلا إذا تعذب وتبهدل وخاض المخاطر التي تفوق مخاطر كهوف التنانين ذوات الرؤوس.

ألوان وأطياف

أثناء سلوكنا طريق النزول بعد الرجم وجدت ست من النسوة من أهل الشام –حتى لا أظلم أحدا فأنا لا أميز لهجات لبنان عن سوريا والأردن– وجدتهن يحاولن الصعود من طريق النزول لأنه أقرب إلى الشاهد المرجوم، وشابان يحاولان منعهما بكل أدب والله، ربما لو كانوا أكثر فظاظة لخافت النسوة، ولكن الأدب العربي الجميل الذي لا يترك لمثل هذا القائم على النظام إلا قوله بشكل متكرر: “بالله عليكم يا حجيً .. ممنوع .. غادرى بالله عليك يا حجى … ما يصير يا حجى ما يصير”.. ونجح الأدب المصر أمام المقاومة الغاشمة لأنها بلا حق ولا معنى، وهبطت النساء صاغرات ليركبوا الطريق الصحيح.

التالي كان طواف الإفاضة، وحدث عن الإفاضة ولا حرج؛ فالحرم كما نقول “ترمى فيه الملح ما ينزلش من الزحام”، اقترحت على زوجي أن نطوف من أعلى، فنظر إلى شذرا وقال: “واضح ان صحتك مساعداك شوية وصعبان عليك توفريها”.

وبدأنا رحلة الاحتكاك والتدافع، ومحاولات مستميتة للاحتفاظ بالهدوء والسلام النفسي.. امرأة ضخمة من دولة إفريقية انطلقت في سباقها مع نفسها، فبالتأكيد كانت تطوف وحدها ولم تكن ترى أحدا، وإلا ما داست وطاشت ودفعت جميع من كان في طريقها ومنهم رأسي الضعيف المثبت بصعوبة على جسدي برقبتي المصابة بانزلاقات غضروفية، احتواني زوجي أكثر بذراعيه وسألني: حصلك حاجة؟، ضحكت حتى أطمئنه وقلته له: “شفت العصافير اللي بتطير على رأس توم وجيرى”.. زغدني بإصبعين: “هو ده وقت قطط وفيران”.

على قدر إعجابي بالنظام والجمال لأفواج جنوب شرق أسيا؛ يصبح المرور بينهم أثناء الطواف ضرب من العته، يجمعون النساء بين سلسلة من الرجال على شكل مربع، ويسيرون بهذا الشكل بدون مراعاة أن الطواف دائري، فأنت أحيانا تتلقى دفعة بكوع أو كتف غير قانوني.

مع نهاية هذه الملحمة بأشواطها السبعة وجدتي أترنح، لم أنم من فجر اليوم التاسع ونحن الآن فى صلاة الظهر يوم العيد، وفقدت التركيز في أي شيء إلا رغبتي في فراش بأي شكل.

في اليوم الثاني وأثناء ذهابنا إلى منى ظهر البرق في السماء عنيفا، فتوقفت السيارة، وأنذرت الدنيا بمطر قادم، وقرر الجميع النزول والدعاء تحت المطر.. وقد كان، كنا أعلى أحد الكباري ونظرت من حولي كعادتي، لأني أحب اكتشاف الأماكن وساكنيها، فوجدت أسفل الكوبري عائلات كاملة من إفريقية تحديدا تفترش الشارع، وهو شارع بكل معنى الكلمة: حصير وكليم ونساء وأطفال، ومنضدة عليها شابان يقومون بقلي بطاطس أعتقد أو باذنجان أو ربما مواد لا أعرفها، ومع هبوب الريح وسخات المطر كل شيء تغطى بالملاءات، فلم تعد ترى أحدا، سبحان الله العظيم.. يسع كل الناس في ملكه.

الافتراش هذا زاد زيادة غير طبيعية مع اليوم الثاني من أيام التشريق، حتى أننا كنا أثناء ذهابنا سيرا على الأقدام إلى منطقة الجمرات نسير بين رجال ونساء نائمة في الشارع، أو جالسة تتجاذب أطراف الحديث، أين الستر؟، أليس النوم عورة للجنسين وللنساء أكثر؟، هل يتصور هذا الرجل أنه حين غطى امرأته بملاءة كبيرة أنها أصبحت مستورة؟، هل يجد ذاك الرجل أن اضطجاعه ببساطة وسط الطريق وقد مد رجليه نائما لا يخدش الحياء لمجرد أنه رجل؟.. فعلا أضم صوتي لصوت أمير العاصمة الدينية، وهو بالمناسبة الأمير عبد الله الفيصل ولصورته وصوته رنين محبب في رأسي.. فهو يشبه كثيرا العظيم الراحل: الفيصل الشهيد، أضم صوتي لصوت القانون: لا للافتراش.. لا للحج بلا تصريح، فهى الحالة الوحيدة التى تؤدى للافتراش لأنك ببساطة غير مرتبط بمطوف يجهز لك مكانا تبقى فيه.

ولقد صدقت حين قالوا إن عدد المفترشين وصل إلى مليون ونصف، وأن الحجاج كانوا مليونين ونصف، فلقد مررت وحدي أثناء تحركي على أكثر من ألف.

انتهت المناسك؛ فلقد كنا من المتعجلين في يومين، ولحظة الافتراق من المجموعة –التي لا تعرفها ولم تتعرف عليها إلا في ثلاثة أيام– تشعر وكأنك تفارق أهلك وأحبابك.. سبحان الله الحج يخلق علاقة من نوع خاص.

اللهم لا تجله آخر العهد بالبيت.. ولا بالضيافة.

بقلم: د. نعمت عوض الله

⇐ وهنا تقرأ أيضًا:

أضف تعليق

error: