كثيراً ما نشاهد في الأفلام مشهداً أصبح مألوفاً للجميع: شخص يتعرض لضربة على رأسه، ويفيق من غيبوبته متسائلاً: “من أنا؟ من أنتم؟ ماذا حدث؟”، ليُقال على الفور إنه يعاني من فقدان الذاكرة. ثم، وبدون أي فحوصات أو تحاليل، يُقدَّم الحل السحري – ضربة ثانية على الرأس تعيد له كل شيء كما كان! هذه الصورة تكررت كثيراً في الدراما والسينما حتى رسخت في أذهان كثيرين كأنها حقيقة علمية، ولكن… إلى أي مدى تعكس هذه الصورة الواقع الطبي والعلمي؟
ما هو فقدان الذاكرة؟ ولماذا يحدث؟
رغم أن فقدان الذاكرة موضوع جذاب تطرقت إليه العديد من الروايات والأفلام، إلا أن فكرة فقدان الهوية والذكريات بسبب ضربة قوية على الرأس تظل حالة نادرة للغاية في الواقع. فالأمر ليس بهذه البساطة، لأن الذاكرة البشرية ليست وحدة واحدة، بل تنقسم إلى أنواع وأجزاء مختلفة، وكل منها يرتبط بمنطقة محددة من الدماغ.
عند الإصابة في الرأس، لا تتأثر الذاكرة بأكملها كما تُظهر الأفلام، بل يتضرر جزء أو اثنان منها فقط. فمثلاً، غالباً ما تكون الذاكرة قصيرة المدى هي المتأثرة، وهي المسؤولة عن تخزين الأحداث اليومية الجديدة، بينما تبقى الذاكرة طويلة المدى – مثل ذكريات الطفولة أو أيام المدرسة – محفوظة في أغلب الأحيان.
كيف تؤثر إصابات الدماغ على أنواع الذاكرة؟
عندما يصاب شخص بارتجاج أو إصابة في الرأس، قد يعاني من:
- صعوبة في تذكر الأحداث الحديثة أو تعلم معلومات جديدة.
- نسيان تفاصيل الحياة اليومية، مثل مكان وضع المفاتيح أو الهاتف.
- نسيان ما دار في حديثه مع الآخرين، مما يجعله يكرر نفس الأسئلة والأفعال.
- تأثر الذاكرة المستقبلية، وهي المسؤولة عن التذكير بالمهام والجدول الزمني، مثل “تذكّر أن تتذكّر”.
ورغم أن الذكريات القديمة تظل في الغالب محفوظة، فإن بعض الأشخاص يعانون من فقدان جزئي لتلك الذكريات أيضاً، مثل معرفة أن شخصاً ما هو ابن خالتهم دون تذكر اسمه. ومن الشائع أيضاً أن ينسى الشخص الحادثة أو الإصابة نفسها، وهو ما يعرف بـ فقدان ذاكرة الإصابة.
الضربة الثانية: هل تعالج فقدان الذاكرة حقاً؟
واحدة من أكثر الخرافات شيوعاً أن ضربة ثانية على الرأس يمكن أن تعيد الذاكرة للمصاب. استطلاعات رأي أظهرت أن نحو 40% من الناس يعتقدون بصحة هذا الاعتقاد، ربما تأثراً بالمشاهد التلفزيونية القديمة التي تُصلَح فيها الصورة بضربة على جهاز التلفزيون.
لكن الحقيقة الصادمة هي أن هذا الاعتقاد لا أساس له من الصحة. بل على العكس، الضربة الثانية لا تعالج شيئاً، وإنما قد تسبب مضاعفات خطيرة تصل إلى الوفاة. ذلك لأن الدماغ بعد الضربة الأولى يكون في حالة ضعف شديد، وأي ضربة جديدة قد تؤدي إلى تورم دماغي أو نزيف مميت.
من أين جاءت هذه الأسطورة؟ ولماذا صدقها الناس؟
ظهرت فكرة “الضربة العلاجية الثانية” في بدايات القرن التاسع عشر، حين طُرحت في بعض الأفلام الصامتة والروايات. ولم يكن الخيال وحده مسؤولاً عن انتشار الفكرة، بل ساهم في ترسيخها بعض الأطباء والعلماء في ذلك الوقت.
من أبرز هؤلاء الطبيب الفرنسي جزافييه بيشا، الذي اعتقد أن الدماغ مكوّن من نصفين متطابقين، فإذا تضرر أحدهما، فالحل من وجهة نظره هو ضرب النصف الآخر لإعادة التوازن العقلي. وهذه الفكرة كانت مبنية على اعتقاد سائد آنذاك بأن إصابات الرأس لا تسبب ضرراً هيكلياً في الدماغ، بل مجرد خلل في التفكير أو الذاكرة، ويمكن “إعادة ضبطها” كما لو كانت آلة.
وظل هذا التصور قائماً حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلى أن بدأ العلماء يدركون أن كل ضربة على الرأس قد تكون مدمرة تماماً لقدرات الذاكرة، وقد لا تُصلح أبداً.
استثناءات نادرة ولكنها غير مقصودة
رغم أن الضربات الثانية لا تعالج فقدان الذاكرة، فإن هناك حالات نادرة شهدت تغيرات غريبة في الشخصية أو الحالة النفسية بعد إصابات في الدماغ. على سبيل المثال:
- سيدة في السبعين من عمرها خضعت لعملية جراحية في الدماغ لاستئصال أورام، وحدث بعدها تغير جذري في شخصيتها، فأصبحت أكثر هدوءاً ولطافة، بعدما كانت طوال حياتها حادة الطباع وعصبية.
- دراسة أُجريت عام 2007 على جنود أصيبوا في الدماغ أظهرت أنهم أصبحوا أقل عرضة للاكتئاب، مما يشير إلى أن الإصابة أثّرت على مناطق الدماغ المرتبطة بالعواطف.
لكن هذه الحالات تظل استثنائية جداً، ولا يمكن اعتبارها دليلاً على أن إصابات الدماغ مفيدة أو أن لها آثاراً علاجية. بل العكس هو الصحيح: معظم إصابات الرأس تؤدي إلى نتائج سلبية وخطيرة.
بالمناسبة؛ هل تعلم ⇐ لماذا يستخدم العلماء الفئران تحديداً في التجارب؟
خلاصة القول
السينما والدراما كثيراً ما تبسط الواقع وتحوّله إلى قصة مشوقة، لكن الواقع العلمي أكثر تعقيداً. فقدان الذاكرة لا يُعالج بضربة ثانية على الرأس، بل إن مثل هذه الضربة قد تكون قاتلة. الأسطورة التي بدأت من خيال الأدباء وبعض المفاهيم العلمية القديمة لا تزال راسخة في أذهان البعض، لكن العلم الحديث أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن سلامة الدماغ أغلى من أي مغامرة سينمائية.
لذلك، في المرة القادمة التي تشاهد فيها بطلاً في فيلم يستعيد ذاكرته بضربة على الرأس، تذكّر أن ما تراه هو محض خيال… والخطر الحقيقي بعيد كل البعد عن نهايات هوليوودية سعيدة.