مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق الإنسان فأحسن صنعه، وأودع فيه الفطنة ليميز دربه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهب للعباد نعمة البيان، وأودع فيهم سر الفهم والإتقان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرفع الناس خلقا، وأصدقهم قولا وفعلا، ﷺ وعلى آله وأصحابه، مصابيح الدجى وسادة الورى.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: في عصر يتسم بتنوع التواصل الاجتماعي ووسائله، أصبح من الضروري أن نوجه أبناءنا نحو تطوير مهاراتهم وتنمية ذكاءاتهم الاجتماعية.
والذكاء الاجتماعي هو القدرة على فهم الآخرين والتعاطي معهم بفاعلية، وليتحقق ذلك لا بد من توسيع مهارات التواصل، لتعزيز القدرة على بناء العلاقات؛ حتى يبقى المسلم قادرا على العطاء، ويتجاوز خطاب أهل الأهواء، يقول الله رب الأرض والسماء: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، فالقدرة على ضبط النفس عند مخاطبة الجاهلين لا يحسنه إلا من ربى نفسه على أحسن المهارات وأفضل القدرات في التواصل مع جميع الفئات.
أيها المسلمون: لا ريب أن تنمية مهارات الذكاء الاجتماعي عند الأبناء تجعلهم قادرين على بناء علاقات صحيحة مع أقرانهم وأفراد مجتمعهم، وكل ذلك يقود إلى شعورهم بالانتماء إلى المجتمع، فيسعون إلى صلاحه وإصلاحه. وأول مراتب تنمية هذه المهارة تشجيعهم على الحوار، وإشراكهم في إبداء الرأي دون غلظة أو شدة، يقول الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: “كنا عند رسول الله ﷺ فقال: «أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، تؤتي أكلها كل حين»، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله ﷺ: «هي النخلة»، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا”.
هذه –عباد الله– صورة جليلة تبين أهمية إشراك الأبناء في كلام الكبار أحيانا ليتعلموا المفيد، فتنضج عقولهم ليكونوا من أهل الرأي السديد، بل لا يليق بالمربي أن يشعر أبناءه بأن عقولهم صغيرة، أو أن يصفهم بقلة المؤهلات أو ضعف مستواهم الإدراكي، فإن النبي ﷺ كان يحترم آراء الصغار في حضرة الكبار، تعزيزا للثقة في نفوسهم، وإشعالا لمشاعل الحكمة وحسن اختيار الكلمة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: “أتي رسول الله ﷺ بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟»، فقال الغلام: والله – يا رسول الله – لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتله رسول الله ﷺ في يده”، أي وضعه في يده.
وفي الحادثة نجد أن رسول الله ﷺ وجهنا إلى الاهتمام بحق الجميع؛ فاستئذانه الطفل حفظ لحقه، وطلبه أن يتنازل للكبار عن دوره مراعاة لحقهم، فلما وجد إصرار الطفل على رأيه ناوله دون عتاب أو تعنيف.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأحسنوا فهم نفسيات أبنائكم، واجتهدوا في إصلاح أقوالهم وأفعالهم، فهو دأب نبيكم، وأمر ربكم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة: العمل والكفاح مفاتيح الرقي والنجاح – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله اللطيف بعباده، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله الحليم، ﷺ وعلى آله وأصحابه أهل الفضائل والتكريم.
أما بعد، فيا عباد الله: قد كان النبي ﷺ يشارك الأطفال في أحاديث تجذب انتباههم، وتلطف العلاقة معهم، فيختار أحيانا من المواضيع ما يلامس اهتماماتهم، يحدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن أخاه أبا عمير كان يربي طائرا تعلق به ويلعب معه، فإذا جاء النبي ﷺ ورأى أبا عمير فتح حوارا معه عن طائره، يقول أنس: “كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير – أحسبه فطيما – وكان إذا جاء رسول الله ﷺ فرآه، قال: «أبا عمير: ما فعل النغير؟»، فكان يلعب به”.
إن التزام الوالدين بحسن الحوار وجمال التعامل مع الناس يجعل الأبناء يراقبون فيقتدون، فما أطفالنا إلا آنية نملؤها يوميا بما يشاهدوننا نفعله، وما يسمعونه منا عن الناس ومع الناس، وفي المثل العربي: “كل إناء بما فيه ينضح”، فإذا كانت أقوالنا تنطلق من قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، تزينت أقوال أبنائنا بالحسن، وإذا كانت أفعالنا موافقة لأمر ربنا فاقتدى أبناؤنا بنا نلنا جميعا حياة كريمة في الدنيا والآخرة، يقول الله جل جلاله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، وليضع كل واحد منا أمام عينه قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.