حوت النروال “كركدن البحر”: وحيد قرن البحار

حوت النروال العجيب: وحيد قرن البحار

في أعماق المحيطات الباردة، حيث تلتقي الأساطير بالواقع، يسبح مخلوق غريب الشكل يُشبه وحيد القرن، لكن ليس على اليابسة… بل في قلب البحار الجليدية. إنه “حوت النروال” أو كما يُطلق عليه البعض: وحيد قرن البحار. فما قصته؟ وما سر الناب اللولبي الذي جعله مخلوقاً مميزاً ومدعاة للدهشة؟

مغامرة عائلية تكشف الستار عن مخلوق أسطوري

بالقرب من السواحل الكندية، خرجت عائلة صغيرة – أب وأم وابنتهما – في نزهة بحرية هادئة. وبينما انشغل الوالدان، لفت انتباه الطفلة الصغيرة شيء غريب يبرز من سطح الماء. بدا كأنه عصا أو خشبة، لكنها لم تكن تطفو أفقياً كما تفعل الأشياء العادية، بل كانت واقفة كأنها تخترق البحر.

حدّقت الفتاة مليًّا، لترى أن ما رأته لم يكن مجرد عصا، بل شيئاً أقرب إلى قرنٍ سحري يشبه قرن وحيد القرن الأسطوري. هرعت نحو والديها، وهي تصرخ في حماس: “انظروا! وحيد قرن في البحر!” وما لبث الوالدان أن شاهدا مشهداً مدهشاً: قرنٌ آخر ظهر إلى جانب الأول، وبدأ الاثنان في التحرك سويًا، ثم ما لبثت تلك القرون أن ارتفعت أكثر، كاشفة عن كائنات بحرية عجيبة… لقد كانا من حيتان النروال.

من هو حوت النروال؟ ولماذا يُلقب بـ”وحيد قرن البحار”؟

عندما يُقال لك إن هناك حوتًا يُشبه وحيد القرن، قد تظن أن الأمر مبالغ فيه أو أنه مجرد تشبيه شكلي. إلا أن حوت النروال هو بالفعل مخلوق بحري حقيقي، يعيش في المياه الباردة في القطب الشمالي والمناطق المحيطة به، وخصوصًا في سواحل كندا، جرينلاند، وروسيا.

يتراوح طول هذا الحوت ما بين 4 إلى 6 أمتار، ويزن في المتوسط حوالي طن ونصف. ويُعرف بعدة أسماء مثل: التامور، الحريش، كركدن البحر، إلا أن اسمه الأكثر شيوعًا هو النروال، أو كما يفضل كثيرون تسميته: “وحيد قرن البحار”.

السر الغريب: هل هو قرن أم شيء آخر؟

ربما تتساءل: ما هذا البروز الغريب الذي يشبه القرن؟ هل هو بالفعل قرن كما يبدو؟ الحقيقة أكثر غرابة مما تتخيل. فهذا “القرن” ليس قرنًا بالمعنى المعروف، ولا يخرج من مقدمة رأس الحوت كما يبدو للوهلة الأولى، بل هو في الواقع ناب طويل ينمو من أحد أسنانه في الفك العلوي، وتحديدًا من الجانب الأيسر.

يصل طول هذا الناب إلى ما بين مترين وثلاثة أمتار، ويخرج مستقيمًا تمامًا – على عكس معظم الحيوانات التي تمتلك أنيابًا خارجية تكون عادةً منحنية، مثل حيوان الفظ. والأكثر غرابة، أن هذا الناب يأخذ شكلًا حلزونيًا لولبيًا فريدًا، ينمو بعكس اتجاه عقارب الساعة، ويمكنه الانحناء بدرجة بسيطة دون أن ينكسر.

هل هو ناب للقتال؟ أم أداة للصيد؟

بطبيعة الحال، طرح العلماء على مدى عقود عديدة تساؤلات حول الهدف الحقيقي من هذا الناب. هل يستخدمه النروال للدفاع عن نفسه؟ أم أنه أداة للصيد، كما قد يوحي شكله الذي يُشبه السيف؟

لكن الإجابات كانت مفاجئة. أولاً، لا يستخدم الحوت النروال نابَه في الصيد إطلاقًا، إذ أن فريسته – مثل الحبار، الروبيان، وأسماك الهلبوت – تُبتلع مباشرة دون الحاجة للمضغ أو القتال. وبالتالي، فإن فكرة استخدام الناب لثقب الفريسة أو شلّ حركتها قبل أكلها تبدو غير منطقية.

ثانيًا، إن الإناث نادرًا ما تنمو لديها أنياب بارزة، وإذا حدث ذلك، فإنها تكون أصغر بكثير من ناب الذكور، مما يعني أن الناب ليس أداة أساسية للبقاء أو الدفاع. فلو كان له هذا الدور، لامتلكته الإناث بنفس الشكل والحجم.

وظيفة الناب: قرن استشعار فائق الحساسية

من خلال أبحاث علمية شارك فيها أكثر من 48 عالمًا و27 مؤسسة دولية عام 2000، وُجد أن ناب النروال أقرب إلى “جهاز استشعار عملاق”. إذ يحتوي على نهايات عصبية حساسة تجعله قادرًا على استشعار التغيرات في ملوحة الماء ودرجة الحرارة، مما يمنح الحوت قدرة عالية على التنقل والتأقلم في بيئته القاسية.

الأغرب من ذلك، أن بنية الناب معكوسة مقارنة بأسنان باقي الثدييات: فهو ناعم من الخارج، ويزداد صلابة كلما توغلنا نحو الداخل – على عكس أسناننا تمامًا.

ورغم أن الناب ليس سلاحًا بالمعنى الحقيقي، إلا أن الذكور تستخدمه أحيانًا في المبارزات الرمزية فيما بينها، سواء للتباهي أو لجذب الإناث.

من الأساطير إلى الأسواق: تجارة القرن السحري

لم يكن البشر يومًا بعيدين عن ربط هذا الكائن بالأساطير. ففي العصور الوسطى، كان يُعتقد أن قرن النروال يملك قوى سحرية وقدرات علاجية خارقة. وقد استغل الفايكنج هذا الاعتقاد جيدًا، فكانوا يصطادون حيتان النروال ويبيعون أنيابها للأوروبيين على أنها قرون “وحيد القرن” الأسطوري.

كان يُعتقد آنذاك أن الشرب من كأس مصنوع من ناب النروال يقي الإنسان من التسمم، ويكسر مفعول أي سم. ولذلك، كانت هذه الأنياب تُباع بأسعار خيالية!

النروال اليوم: بين التغير المناخي والصيد التقليدي

بالرغم من جهود المنظمات الدولية لتقييد صيد هذا الكائن، إلا أن شعوب الإينويت (الإسكيمو) ما زالوا يمارسون صيده حتى اليوم، مستفيدين من لحمه وجلده ونابه الثمين.

ومع ذلك، يواجه حوت النروال تحديات متزايدة بسبب التغيرات المناخية وارتفاع حركة الملاحة في مناطقه، مما يؤدي إلى اضطرابه واضطراره للهجرة من أجزاء كبيرة من بيئته. كما أن ضوضاء السفن تؤثر على تواصله الصوتي واعتماده على السونار، وهو أمر حيوي له في بيئته القطبية.

وبسبب طبيعة حركته الجماعية – التي تتراوح عادة بين 15 إلى 20 فردًا – قد تعلق مجموعات النروال في الجليد، لتصبح فريسة سهلة للدببة القطبية وحيوانات الفظ.

هل ما زالت هناك أسرار لم تُكتشف بعد؟

رغم التقدم الكبير في فهم طبيعة حوت النروال ووظيفة نابه الغريب، لا تزال هناك ألغاز لم تُحل بعد. فالكثير من العلماء يؤمنون بأن هذا الكائن لا يزال يخفي أسرارًا بيولوجية فريدة قد تُكتشف في المستقبل.

وربما، يكون هذا ما يجعل النروال كائنًا ساحرًا بحق، إذ يجمع بين واقع العلم وغموض الأساطير، بين الناب الحسي والقرن السحري، ليؤكد لنا أن بعض الأساطير… قد تكون حقيقية بالفعل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top