خطبة عن أهمية تحصين الآبار والحفاظ على نعمة الماء

اليوم نقدم لكل أئِمتنا وخطائنا الفضلاء الأكارم خطبة جمعة مكتوبة عن أهمية تحصين الآبار حفاظاً على الأرواح. وكذلك مدى ضرورة الحفاظ على نعمة الماء؛ والتوعية بخطر إهدارها والإسراف فيها. ومن ذلك سنذكر ونبين ونستشهد بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة في ذلك.

مقدمة الخطبة

إن الحمد لله -تعالى-، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله ﷻ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.

أما بعد؛ فإن أصدَق الحديث كتاب الله. وخير الهدي هدي محمد ﷺ. وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الخطبة الأولى

أما بعد، عباد الله. فإن العبد يتقلَّب في نِعَم الله ﷻ الظاهرة والباطنة، ليلا ونهارا، وهو لا يشعر. ونِعَمُ الله -ﷻ- على العبد كثيرة، لا تعد ولا تحصى. كما قال ﷻ ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾.

وهذه النعم إنما هي من فضل الله رب العالمين على خلقِه وعباده. كما أخبر ﷻ ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾. فكل النعم من الله ﷻ. ومهما حاول العبد عدًا وإحصاءً ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

نِعمة الماء

وإن من أجَلّ نِعَم الله ﷻ على العبد، بل على جميع الخلائق -وكل نعم الله ﷻ عظيمة- إن من أعظم النعم، وإن من أفضل المنن؛ نعمة الماء. هذه النعمة التي لا يعرف قدرها كثيرٌ من الناس. ولا يتقون الله ﷻ في استعمالها. ولا يشكرون الله رب العالمين عليها.

الماء -عباد الله- جعل الله ﷻ منه كل شيء حي. كما قال ﷻ ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾. فكل الأحياء خلقها الله رب العالمين من الماء، أو كانت في أصل خلقتها من الماء. أو لا توجد أصلي إلا بوجود الماء.

لمَّا جاء أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء. فقال: «كل شيء خلق من ماء». وهذا كقول الله ﷻ ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾.

فما من مخلوقٍ أوجده الله ﷻ إلا بفَضل هذه النعمة التي أنعم الله ﷻ بها على العِباد.

والله خلق كل دابة من ماء. فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع. الذي خلق هو الله ﷻ. خلق كل دابة من ماء.

ومع أن الماء واحد، ولكن الله ﷻ جعل بني آدم وجعل المخلوقات أشكالا وأصنافا وألوانا. فمنهم من يمشي على بطنه؛ كالحية وما شابه، ومنهم من يمشي على رجلين؛ كبني آدم وكثير من الطير، ومنهم من يمشي على أربع؛ كبهيمة الأنعام.

فكما أن الماء واحِد، ولكنّ الله ﷻ جعل المخلوقات أشكالا وأنواعا وأصنافا. كما فعل مع الزروع والثمار التي تخرج للناس من الأرض، مع أن الأرض واحدة، ومع أنها تُسْقَى بماء واحد. ولكن الله ﷻ فضَّل بعضها على بعض في الأُكل. فمنها ما جعله الله ﷻ حلوا، ومنها ما جعله الله رب العالمين مرا. فنوَّع الأشكال والأصناف والألوان والأنواع. مع إن الأرض واحدة ومع أن الماء واحد، وجعل الله ﷻ ذلك آية للعالمين.

الإنسان خُلِق من الماء. ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ | خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ | يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾. ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ | أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا﴾.

وقدَّمه الله أولا، لأن كل ما سيأتي بعد ذلك تبعا لهذه النعمة.

فانظر أيها الإنسان واعتبر. ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ | أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا | ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا | فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا | وَعِنَبًا وَقَضْبًا | وَزَيْتُونًا وَنَخْلا | وَحَدَائِقَ غُلْبًا | وَفَاكِهَةً وَأَبًّا | مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.

فالماء -عباد الله- من أجَلّ نعم الله ﷻ على العِباد. لا يستغني عنها بَرٌّ ولا فاجر، ولا من ولا كافر، ولا عالم ولا جاهل، ولا مقيم ولا مسافر، ولا كبير ولا صغير. الناس جميعا في أمَسّ الحاجة إلى هذه النعمة العظيمة.

وأنزلنا من السماء ماء بقدر

ومن نِعم الله ﷻ في الماء أن الله ﷻ ينزل الماء من السماء بقدرٍ. قال ﷻ في سورة المؤمنون ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَر﴾. وهذا من فضل الله ﷻ. على حسب الحاجة، وعلى حسب النفع. فمن احتاج كثيرا أعطاه الله، ومن احتاج قليلا أعطاه الله. لأن الماء إذا زاد عن الحاجة والقدر كان فيه الهلاك. وإذا قلَّ عن الحاجة والقدر أيضًا كان فيه الهلاك.

ألم تر إلى الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ لما انقطع الغيث واحتاجوا إلى الماء. قال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال. فلما نزل الماء وكان كثيرا فائضا زائدا عن الحد وعن الحاجة. جاء إلى النبي ﷺ مسرعا فزعا: يا رسول، تهدَّم البناء وغرق المال.

فمن حِكمة الله على العباد أن الله ﷻ أنزله بقدر على حسب الحاجة. لا كثيرا فيُفسد البلاد والعباد ويُغرِق، ولا قليلا يحتاج إليه الناس. وإنما بقدر ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾. فجعله الله رب العالمين ساكِنا في الأرض، ومع ذلك جعل الأرض به تنتفع ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾. يعني لو أن الله ﷻ شاء أن يذهب الماء لأذهبه، وما استطاع أحد من العالمين أن يتحصل عليه.

قد يمنع الله ﷻ المطر، وقد تنزل الأمطار ولا ينتفع بالماء أحد. وقد الله ﷻ ملحا أجاج، وقد يجعله الله ﷻ غائرا في الأرض. كما قال لنبيه ﷺ في سورة الملك؛ أخبرهم يا محمد، قل لهم ونبئهم عن نعمة الماء ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾؛ أي غائِرًا في الأرض وذاهبا، لا تستطيعون أن تتحصلوا عليه ولو بالفؤوس الحِداد ولو بالسواعد الشداد ﴿فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾. يعني: من هذا الذي يأتي إليكم بالماء، ويجعله على الأرض سهلا هينا جاريا، تنتفع به البلاد وينتفع به العباد وينتفع به الشجر والدواب؟

فمن نِعَم الله أن الله ﷻ أنزله بقدر.

الماء جند من جنود الله

والماء -عباد الله- جند من جنود الله. قد يجعله الله ﷻ هلاكا لأقوام، وقد يجعله الله ﷻ نجاة لآخرين. لأن الماء مأمور بأمر الله ﷻ. لا تنزِل من السماء قطرة، ولا ينتفع العبد بقطرة إلا بإذن الله  رب العالمين.

الماء جند من جنود الله -تعالى- يجعله الله ﷻ سببا للنجاة، ويجعله ﷻ سببا للإهلاك والإغراق.

وهذا هو الكليم -عليه السلام-؛ في صِغره أوحى الله ﷻ إلى أمه، وضعته في التابوت، ووضعت التابوت في اليم ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾.

ولما كان كبيرًا، وخرج بقومه هاربا. تبِعه فرعون ومن معه. البحر هو البحر؛ جعله الله ﷻ نجاة لعباده المؤمنين، وأغرق فيه الكافرين المجرمين.

البحر الذي جعله الله سببا للنجاة؛ هو بعينه، وفي نفس التوقيت والحال هو الذي جعله الله سببا لإغراق أعدائه.

الماء الذي جعله الله نجاة لنوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- هو الماء الذي أغرق به من عانده وكذبه وعارضه، حتى لو كان من أقرب الناس إليه.

يتمنى أهل النار وهم في النار شربة من ماء، يتجهون إلى أهل الجنة -جعلنا الله ﷻ من أهلها بفضله وكرمه- ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء﴾ وهم في النار؛ أليس عندهم ماء؟ عندهم ماء. ولكن الماء الذي عند المؤمنين في الجنة جميل في صفائه، جميل في نقائه، جميل في صورته، جميل في طعمه. فطعمه أحلى من العسل. وأما الماء الذي عند الكافرين يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء.

فكان هذا الماء رحمة من الله لعباد، وكان عذابا وعقابا من الله على آخرين.

أهمية تحصين الآبار

ولما كان الماء نِعمة من أجَلّ نعم الله على العباد؛ فليعلم العبد إنه مسئول عن هذه النعمة أمام الله رب العالمين. قال ﷻ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.

فما بالك إن انعكس الخير والأجر إلى شر وإثم! فنحن نجِد أن بعضها من الآبار قديم، وأصحابها قد ماتوا ورحلوا عن هذه الحياة الدنيا؛ حينها يلزم على كل منطقة حصر ما لديها وردم الغير صالح للاستخدام، ثم تحصين الصالح منها.

ومؤخرا نسمع عن فقد الأبناء والأحباب بسبب هذه الآبار المكشوفة المهترئة، والتي ليس على فوهتها علامات تحذيرية تدل عليها. حينها يجب أن يدرك المسلمون وجوب التعاون والاستجابة للتوجيهات الصادرة بهذا الشأن الخطير، والتعاون مع الجهات المختصة من أجل ذلك. مما يُحقق المصلحة العامة في العناية بهذه النعمة العظيمة.

الماء هو الحياة

وقد أخبرنا الصادق الأمين أن العبد سيُسأل عن الماء يوم القيامة. فقال ﷺ «إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة -يعني العبد- من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك» أي: ألم نجعلك صحيحا معافى. ونعمة الصحة من أجَلّ نِعم الله عليك. «ونرويك من الماء البارد» يعني بعد عطش، يعني بعد ظمأ، يعني بعد شدة شوقٍ إلى الماء.

ستُسأل يوم القيامة عن هذه النِعمة.

فمن منع فضل الماء عن العباد، منع الله ﷻ فضله عنه يوم القيامة. ففي حديث مخرج في صحيح البخاري، يقول النبي ﷺ «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم:… -وذكر منهم- ورجل منع فضل ماء». فقال الله له يوم القيامة ﴿اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك﴾.

وعن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال «سقي الماء». لأن الماء لا يشرب منه طير ولا حيوان ولا جِن ولا إنس، إلا كان لصاحبه به أجر عند الله رب العالمين.

أرأيت الرجل الذي أخبر عنه النبي ﷺ، لما أدركه العطش، فوجد بِئرًا، فشرب. فلما خرج وجد كلبا يلهث من شدة الثرى -يعني من شدة عطش- فملأ خفه ماء وسقاه. فشكر الله ﷻ له. فغفر الله ﷻ له.

فإذا كان الله ﷻ غفر لمن سقى كلبا، فكيف بمن سقى آدميا من بني آدم! وإذا كان الله قد غفر لمن سقى الكلب، فكيف تكون المغفرة لصاحب البئر!

فضل الماء

فالماء الله فضائله كثيرة، وخصائِله عظيمة. وإذا أردت أن تعرف فضله فتخيل نفسك، تخيل نفسك -مجرد تخيل- أنك تحيا على هذه الأرض من غير ماء. لا ماء هنالك لتشرب منه، ولتتطهر به، ولتسقي حرثك وزرعك، ولتطهر بيتك وثوبك. تخيل نفسك أنك تحيا من غير ماء؛ كيف يكون الحال؟

رجل يكاد أن يموت من شِدة العطش، رجل متسخ البدن، تفوح منه رائحة القاذورات، والعرق يتصبب من على جسده، ثياب متسخة، لا أشجار ولا انهار، بيوت فيها القذارة؛ لا يتحمل الواحد أن يعيش في بيته يوما كهذا اليوم. فكيف إذا عُدِمت المياه، أو منعها الله عن العباد، أو حجب نعيمه ونعمه عن خلقه، أو جعل الماء ملحا أجاجا لا يصلح لطعام ولا يصلح لشراب ولا يصلح لسقي ولا لزرع ولا لأكل ولا لشرب! كيف أنزله الله فأصبح في الأرض غائِرا، لا يقدر العبد أن يتحصل على قطرة منه!

تخيل… وان تصورت ذلك تصورا صحيحا، أدركت قيمة هذه النعمة التي أنعم الله ﷻ بها على العباد. ولكن يا لها من نعمة قليلٌ شاكرها، ويا لها من نعمة لا يعرف قدرها كثير من الناس.

وهذا هو هارون الرشيد، وكان رجلا صالحا ورعا تقيا زاهدا، لا كما يصور في الأفلام والمسلسلات. وإنما كان رجلا تقيا صالحا عابدا مجاهدا زاهدا.

فدخل عليه ابن السماك الواعظ، فوجد في يده كأس به ماء؛ فقال هارون: عِظني يا ابن السمات. قال: يا أمير المؤمنين، أرأيت أن عُدِم الماء، فلم تتحصَّل عليه! فماذا تبذل حتى تتحصل على شربةٍ من ماء؟ قال: ابذل نصف ملكي. قال: اشرب هنيئا لك يا أمير المؤمنين.

فلما شرب وحمد الله تعالى. قال ابن السماك: يا أمير المؤمنين، أرأيت أن حُبِس البول في المثانة فلم يخرج، وأردت إخراجه، فكم تدفع من ملكك؟ قال: أدفع نصف ملكي. فقال: يا أمير المؤمنين. فانظر إلى هذا الملك… ملك لا يساوي شربة ماء.

وكان هارون يخاطب السحابة في السماء؛ أمطري حيثما أمطرتِ، فسوف يُحمَل إلى خراجك.

فبكى هارون الرشيد، رضي الله عنه وعن الصالحين من أمة رسول الله ﷺ.

فنسأل الله ﷻ أن يجعلنا بنعمه من المقرين؛ وصلى الله وسلم وبارك على إمامنا ونبينا محمد ﷺ.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده؛ إمامنا ونبينا محمد ﷺ، وعلى من تبعه وسار على نهجه.

أما بعد، عباد الله؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

أهمية المحافظة على الماء في الإسلام

لمَّا كان الماء بهذه المنزلة، وبهذه المكانة؛ فقد أرشدنا النبي -صلى الله وسلم وبارك عليه- إلى المحافظة عليه. وإلى حسن استخدامه واستعماله، وإلى شكر الله رب العالمين على نعمه.

فهذا هو النبي ﷺ، كان لا يُسرف في استعمال الماء؛ لا في وضوءه ولا في غسله. فلا يجوز لعبدٍ أن يُسرِف في استخدامه حتى كان في عبادة لله ﷻ. يعني إذا أردت أن تتوضأ أو تغتسل لله رب العالمين، هذه عبادة، ومع أنها عبادة لا يجوز لك وأنت تتعبد لله رب العالمين أن تُسْرِف. فإذ أسرفت في غير العبادة كان الذنب أعظم، وكان الإثم أكبر. لأنه لا يجوز أن تُسْرِف في العبادة. قال ﷻ ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.

وكان نبيكم ﷺ يتوضأ بالمُد، ويغتسل بالصاع. والمد هو: ملء كفي الرجل بالماء. والصاع: أربعة أمداد.

والنبي كان أتقى لله منا، وكان أسبغ للوضوء منا. لما سمع رجل هذا الكلام، قال: هذا لا يكفيني. فقال علي -رضي الله عنه-: قد كان يكفي من هو خير منك، وأوفر منك شعرًا. يقصد: النبي صلى الله وسلم وبارك عليه.

واليوم، لو جمع الواحد منا وضوءه لكفى أكثر من سبعين من أصحاب النبي الكريم ﷺ.

ولما جاء الأعرابي يتعلم الوضوء من رسول الله ﷺ. توضأ النبي ثلاثا. قال: «هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم».

فالعبد ينبغي عليه ألا يسرف في الماء حتى ولو كان على نهر جار.

الذين يكثرون من صب الماء في الطرقات، يؤذون المارة؛ وقد تنكسر رقابهم، وقد يصيبهم البلاء العظيم؛ ولا يبالون؛ «لا ضرر ولا ضرار».

والذين يفتحون المياه أثناء الوضوء، ويتحدثون، ويتركون المياه تنهمر؛ هذا فعل لا يجوز، نهى عنه رسول الله ﷺ.

والذي يكثر من صب الماء لغسيل بيته، أو لغسيل الآنية، أو لغسيل السيارات وما أشبه. كل ذلك من الإسراف الذي نهى عنه.

الذي في بيته المياه تنهمر وهو لا يبالي، ولا يلتفت، ولا يكلف خاطره أن يقوم بإصلاح ما أُفسد؛ هذا آثِم عند الله ﷻ. لأنه يسرف عامدا متعمدا من غير جدوى ولا نفع. فلا ينتفع ولا ينتفع غيره.

ومن شِدة حرص النبي ﷺ على الماء. نهانا ﷺ أن العبد إذا استيقظ من نومه أن يغمس يديه في الإناء قبل غسلهما ثلاثا. يعني إذا كنت نائما واستيقظت، وعندك ماء قد قُمت بحفظه وجمعه لحاجتك؛ فلا تضع يدك فيه مباشرة. ولكن عليك أن تحمل منه، ثم تغسل يديك بعيدا عنه، حتى تكون طاهرة؛ ثم بعد ذلك ضع يديك في الإناء ولا حرج.

قال -صلى الله عليه وسلم- «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده»؛ والحديث في صحيح البخاري.

نعم؛ أنت لا تعلم أين باتت، أو أين وضعتها، وما الذي جاء من الدواب والهوام عليها، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة التي لا يعلمها إلا الله.

كذلك نهاك النبي ﷺ عن التنفس في الماء حتى لا تؤذي نفسك أولا، ولا تؤذي من شرب بعدك ثانيا. وإذا أردت أن تشرب فإياك أن تتنفس في الإناء. النبي ﷺ كان إذا أراد أن يشرب سمى الله، ثم شرب شربة وأبان القدح -أبعد الإناء عن فمه- ثم حمد الله وتنفس. يفعل ذلك ثلاث مرات.

فمن منا عباد الله يشرب كما كان يشرب النبي ﷺ؟ يسمي الله عند مشربه، ويسمي الله ﷻ عند طعامه، ويحمد ربه ﷻ بعد الفراغ؛ ويشرب ثلاثا.

ومن شدة حرصه ﷺ على الماء. أمر ألا نلوث الماء. فنهى ﷺ عن البول في الماء الراكِد؛ يعني في الماء الدائم. لأن هذا يؤذي الناس ويفسد المياه.

العبد ينبغي عليه أن يكون عاقلا. عندك ماء؟ استعمله لطعامك وشرابك. إن لم يكن فلا تلقه، وإنما عليك أن تستخدمه لطهارتك. فإن لم يصلح، فعليك أن تستخدمه في غسل الآنية والثياب. إذا لم يصلح، فاجعله شرابا هنيئا للماشية. إذا لم يصلح، فاجعله شرابا لحرثك وزرعك.

حافظ عليه؛ ولا تقم بتلويثه ولا تسرف.

اليوم حدثني بربك؛ من كان عنده حيوان مات؛ أين يلقيه؟ في المياه، في الترع، والمصارف. من كان عنده قاذورات؛ أين يضعه؟ في المياه. الناس أين يضعون ما يخرج من بطونهم؟ في مياه الترع والمصارف؛ إلا من رحم الله رب العالمين. ما يخرج المرأة عند الولادة ومن الحيوانات؛ أين يوضع؟ يلقى هنالك. القاذورات التي تكون على أطفالنا؛ أين نضعها؟ هنالك أيضًا في الترع والمصارف. هذه الجبال من القمامة والنتن والقذر والوسخ، التي تكون على الجسور في الترع والأنهار والمصارف؛ من أين جاءت؟ هل نزلت من السماء؟ نحن الذين وضعناها بأيدينا.

فإذا أراد أحدٌ من الناس أن يتوضأ أو يغتسل أو يغسل إناءً أو أن يقف ليسقي زرعا أصابه المرض. وكل كبد يأكل المرض فيه، يتحمل من فعل ذلك إثما ووزرا. وكل كُلية فسدت وفشلت عن العمل؛ من وضع شيئا من ذلك في هذه المياه يتحمل من ذلك إثما ووزرا.

فتأملوا -رحمكم الله- في هدي نبيكم -صلى الله وسلم وبارك عليه- فأمرنا ألا نسرف في استخدام المياه، وألا نقوم بتلويثها، وألا نتنفس فيها، وألا نقوم بإلقاء القاذورات فيها. لأن هذا يؤذي الناس. ولا ضرر ولا ضرار.

المياه -عباد الله- منها يشرب الناس، وبها تسقى الزروع والماشية، وبها يكسى وجه الأرض، وبها تكون حياة الكائنات. فاحفظوا هذه النعمة، واتقوا الله ﷻ فيها، وحافظوا عليها. لأننا إن لم نقم بشكرها أذهبها الله ﷻ عنا.

وأنتم لا يخفى عليكم أهمية الماء وفوائِدها العظيمة؛ ومع ذلك لا تنتبهون، ومع ذلك لا تستيقظون، وكذلك على النعم لا تحافظون، ولا لصاحب النعم تشكرون. فحق النعم الشكر، وشكر الله -تعالى- أن نعترف بنعمه باطنة، وأن نقر بها ظاهرة، وأن نستخدم نعمة الله في طاعة الله رب العالمين. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الدعاء

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لنا وأن يرحمنا.

اللهم عافنا واعف عنا، اللهم تجاوز بفضلك عن سيئاتنا.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات.

اللهم إنا نسألك حُسن الختام، والوفاة على ملة الإسلام، وأدخلنا الجنة بسلام، واجعل كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، محمد رسول الله ﷺ.


كانت خطبة اليوم عن أهمية تحصين الآبار والحفاظ على نعمة الماء. ألقاها فضية الشيخ هاني مصطفى نجم -حفظه الله-.

نسأل الله -سبحانه- أن تنتفعوا بها جميعا؛ وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا المصطفى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top