خطبة بليغة مكتوبة بعنوان: حفظ اللسان والجوارح

خطبة بليغة مكتوبة بعنوان: حفظ اللسان والجوارح

والحديث مستمر حول ما ينفع المسلم في دينه ودنياه وآخرته؛ وهذا ما نُكمِله هاهُنا في تقديمنا لخطبة بليغة مكتوبة؛ تحت عنوان: حفظ اللسان والجوارح. وهي تلك المُفعَمة بالكثير من الوعظ والإرشاد، الذي نغتنمه من الآيات القرآنية في كتاب الله ﷻ والأحاديث النبوية المُشرَّفة من سُنَّة النبي المختار ﷺ.

خطبة اليوم هي أحد الخُطب المنبرية لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ —جزاه الله خيرا—؛ ونحن نوفرها لكم هنا —بدورنا— مكتوبة جاهزة، لاستخداماتكم المختلفة.

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصالحات، الحمد لله الذي حَمِدَه أهلُ السَّموات وأهل الأرض طوعا أو كرها، فهو المحمود في كل حال وعلى كل حال، وهو المحمود الذي بحمده تتفتح أبواب الخيرات.

فالحمد لله رب العالمين، ابتدأ ﷻ خلقه بحمده ﷻ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَتِ وَالنُّورَ﴾ [سورة الأنعام: ١]، وأنهى الحياة بحمده ﷻ: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الزمر].

ونحن ما بين هذين الحَمْدَيْن، الحمد الأول والحمد الآخر نَحْمَدُ ثم نحمد ثم نحمد، فالحمد الله في الأولى والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

الخطبة الأولى

أما بعد.. فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله حق التقوى. واعلموا أن حقيقة تقواكم الله ﷻ أن تمتثلوا أوامره. الله ﷻ أمرنا بأوامر ونهانا عن نَوَاهِ، فمن امتثل الأمر وانتهى عما عنه نهى الله ﷻ فهو من المُتَّقِين، فحقيقة التقوى أن تطيع الله ﷻ على نورٍ من الله ﷻ، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله عنه على نور من الله، تخشى عِقابَ الله ﷻ، فاتقوا الله حق تُقَاتِهِ، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخرَجا﴾ [سورة الطلاق].

أيها المؤمنون، جاء في صحيح أبي عبد الله البخاري —رحمه الله تعالى—، من حديث الشعبي، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ».

فالنبي ﷺ في هذا الحديث يُبَيِّن حقيقة المسلم، وحقيقة كمال الإسلام، ويُبين حقيقة الهجرة التي لا تنقطع ولا تكون في حال دون حال، فحقيقة المسلم أن يَسْلَمَ المسلمون من لسانه ويده، وهذه السلامة تجعل المسلمين يسلمون من لسانه ويده؛ لأنه سَلَّمَهم من لسانه ويده لما بينهما من عقد الأخوة والمحبة في الله ﷻ، فإن الحبيب والمُحِب لا يُسيء إلى حبيبه، والله ﷻ عَقَدَ الموالاة وعقد المحبة بين المسلمين جميعًا بل بين المسلمين والمسلمات، فقال ﷻ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [سورة التوبة: ٧١].

فالمؤمن والمؤمنة والمسلم والمسلمة بعضهم أولياء بعض يحب بعضهم بعضًا مَحَبَّة دين ومحبة إيمان، ويحب بعضهم بعضًا في الله، فالإسلام هو الذي جمعهم والإيمان هو الذي ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة الأنفال: ٦٣].

إذًا أيها المؤمنون إن سلامة المسلمين من ألسنتنا ومن أيدينا مَبْنَاهُ على أننا نحب لإخواننا المسلمين ما نحب لأنفسنا، فكما أننا لا نحب أن نؤذى، ولا نحب أن يُعْتَدَى علينا: لا باللسان، ولا باليد، فكذلك نجعل المسلم سَلِيمًا مِنَّا مِن ألسنتنا ومن أيدينا، وكذلك نجعل المسلمات سالمات من ألسنتنا ومن أيدينا.

فهذه الحقيقة قد بَيَّنَها النبي ﷺ، وهي من الحقائق الغالية التي لو جعلها المسلم في قلبه، وفي حركته لتَغَيَّر حالنا، ولَتَغَيَّر ما نرى في البيوت أو في المجتمعات «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

فمَنْ يؤذي المسلمين بلسانه نَجِده إذا تَصَدَّرَ في المجالس، أو كان مع أصحابه نَرَاهُ يَغْتَابُ هذا ويدم هذا، فهذا ممن لم يَسْلَم المسلمون من لسانه، فهذا قد خَالَفَ حقيقة المسلم التي ينبغي عليه أن يتحلى بها، بل يجب عليه أن يكون عليها.

إن الغيبة نوع من أنواع هدر حق المسلم؛ لأن عِرْضَ المسلم حرام على أخيه كما قال ﷺ في حديث أبي بَكْرَةَ —رضي الله عنه—: «إِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا﴾، فعِرْضُ المسلم حرام.

فغيبة المسلم كبيرة من كبائر الذنوب عند كثير من أهل العلم؛ لأن الله ﷻ قال: ﴿وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [سورة الحجرات: ۱۲].

قال العلماء: لَمَّا شَبَّةَ الغِيبَةَ بأكل لحم الميت صار حُكْمُ الغِيبَةِ حُكْمَ أَكْلِ لَحْمِ المَيِّتِ، وأكل لحم الميت كبيرة، فكذلك الغيبة؛ لأن الله ﷻ قَرَنَ بينهما، وشَبَّه هذا بهذا.

كذلك النميمة، كذلك الطعن، كذلك السَّبِّ، كذلك الشتم، كذلك الكذب، كذلك التشويه، كذلك أصناف كثيرة مما [يَقْتَرِفُه] الناس بألسنتهم، فيؤذون عِباد الله، والله ﷻ يقول: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَنَا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب].

فكيف ترى ذاك المسلم الذي تراه يغتاب هذا وذلك، ولا يتورع، بل يعلم أنه يكذب في حق فلان وتجده يكذب الكذبة فتطير في الآفاق، فتنتشر بين الناس، ويصير الناس يقولون: فلان فعل كذا.

والكاذب هو الذي نَشَرَ السوء عليه، والله يعلم أن ذلك المسلم الضعيف بَرِيءٌ مما افتراه ذلك المسلم الذي لم يَرْعَ حق أخيه، وارتكب تلك الكبيرة: الغيبة والنميمة والكذب.

أيها المؤمنون، إن حفظ اللسان من علامات الإسلام، والله ﷻ عَظَمَ أَمْرَ اللسان فيما تقول وفيما تَذَرُ، فيما بينك وما بين أقاربك، وفيما بينك وبين زملائك في العمل، وفيما بينك وبين كل مسلم تعرفه أو لا تعرفه، فانظر واسمع قول الله ﷻ: ﴿وَقُل لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَعُ بينهم﴾ [سورة الإسراء: ٥٣] فلا تَظُنَنَّ أنك إذا اغتبت أحدا فإنها لن تصل إليه بل ستصل إليه، ثم يعمل الشيطان في البغضاء وفي التنافر فيما بين المسلمين، وحصل من ذلك كثير، فكم تَفَرَّقَ أقارِبُ بسبب ذلك، وكم حصلت شحناء بسبب ذلك.

وقد روى مسلم في الصحيح أن النبي ﷺ قَالَ: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ؛ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنِ إِلَّا عَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَخَنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّىٰ يَفِينًا» أي أخُرُوا هذين حتى يَصْطَلِحَا.

وما سبب الخلاف وسبب الفُرْقة، وسبب الشحناء إلا اللسان. فينبغي علينا أن نَمْتَثل قوله ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

كذلك تعرض المسلم بلسانه للنساء، لنساء إخوانه المؤمنين، ألم تعلم أن المرأة التي ربما أَلَنْتَ لها الكلام وتَعَرَّضْتَ لها بقيل أو قال وخَضَعْتَ لها بالقول أو هي كذلك، ألم تَعْلَمْ أن في ذلك انتهاكًا لحق أخيك المسلم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه، فما سَلِمَ زَوْجٌ من مسلمٍ تَعَرَّضَ لأهله، أو تعرّض لابنته، أو تعرض لأخته، وكُلّكم لكم أهل ولكم أخوات ولكم نساء.

إذًا فإن الذين لم يراعوا ألسنتهم وتصرفاتهم مع الرجال والنساء فإنهم يكونون بذلك قد اعتدوا على حق إخوانهم المسلمين.

فلا يجوز أيها المؤمنون، أن نقول: إن الأكثرين منا يعتدون علينا، ولا يجوز أن نقول: إن الكثرة الكاثرة تعتدي على حق إخوانهم دون وَرَع، ودون تحقيق لمعنى الإسلام، فالمسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده. فلا يجوز للرجل أن يدخل بيت أخيه عن طريق الهاتف، فيقول ما يقول، ثم يأتي الشيطان، فينفخ في صدر المرأة ويجعلها تفكر في كذا وكذا، ولكن من الذي اعْتَدَى؟ الذي اعتدى هو ذلك الرجل بقيله وقاله.

كذلك الذين يمارسون البيع والشراء، أو كذلك المعلمون الذين ربما اتصلوا ببعض النساء، وغير ذلك من الأحوال والمقامات التي يجمعها عدم مراعاة المسلم حَق أخيه المسلم، فإن في ذلك أنواعا من الاعتداءات التي يجب أن نَجْتَنِبَها، فالمسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه، كما قال ﷺ.

وأنواع تعديات اللسان كثيرة كثيرة، ثم يعظم الأمر إذا لم يسلم خاصة المؤمنين من لسان المسلم بأن كان يقع في أهل العلم، ويقع في الصالحين، ويقع في الأتقياء، ويذم القضاة، ويذم هذا [ويذم ذاك]، فأي خير يبقى فينا إذا لم يَحْمِ بعضُنا عِرْضَ بعض، إذا كان المسلم لا يحمي عِرْضَ أخيه المسلم، إذا كان المسلم لا يحمي عرض المسلمة، ولا يشعر أنه بإسلامه وإسلامها تَمَّ عَقْدُ الأخوة الإيمانية بينهما، فأي خير يبقى فينا إذا لم يحم بعضنا بعضا.

إن حفظ اللسان أمر مهم، فهيا إلى حفظه، وحَذَارِ أن يُفَرِّقَ الشيطانُ فيما بيننا، أو أن يغوينا بالمحرمات عن طريق هذا اللسان، فهو وسيلة لأنواع الخيرات، كما أنه وسيلة أيضًا لأنواع الشرور والمنكرات.

أيها المؤمنون، إن سلامة اليد أن يسلم المسلمون من يدك، واليد لا تعني فقط أن تبطش، أو أن تضرب، أو أن تعتدي بها مباشرة، بل إن اليد لها أنواع من التصرفات يحدث بها أنواع من الاعتداء، ولهذا قال النبي ﷺ في وصف أولياء الله، وفي وصف خاصة الله الذين أحبوه فأحبهم، الذين يَسَّرَ لهم أنواع الخيرات، قال ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷻ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».

فهذه حال خاصة عباد الله أنهم يوفّقون في حركة أيديهم، فترى حركة أيديهم إنما هي في الخير فيما يعود نَفْعُه لهم، وفيما يعود نفعه إلى إخوانهم المسلمين، فكيف حال الذين لم يَسْلم المسلمون من أيديهم، حيث تَعَرَّضُوا لأعراض المسلمين بأيديهم، وتعرضوا لأولادهم بأيديهم، وتعرضوا لبيوتهم أيضًا بأيديهم، وتعرَّضُوا أيضًا لأموال المسلمين بأيديهم، فغَشَّوا وارْتَشَوْا وأخذوا وفعلوا ما فعلوا، وكل ذلك من أنواع الاعتداء، ولم يسلم المسلمون من أيديهم حتى في الأموال الخاصة اعْتَدَوْا عليها، وفي الأموال العامة للمسلمين اعْتَدَوْا عليها أيضًا، فلم يُراعُوا لهذا الأمر حُرْمَة، والسفهاء موجودون في كل زمان ومكان، ولكن على أهل الإيمان أن يأخذوا على أيدي السفهاء، وأن يَأْظُرُوهم على الحَقِّ أَطْرًا، فإن في هذا بقاء خَيْرِيَّة هذه الأمة، كما وصف ذلك نبينا ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّىٰ تَأْظُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أطرا».

إن الاعتداءات المختلفة باليد نوع من أنواع الإيذاء، ونوع من ترك سلامة المسلم من لسان المسلم ويده، وهذا مما يجب التناهي عنه، ومما يجب التواصي بأن يسلم المسلمون من ألسنة المسلمين وأيديهم. وإن سلامة المسلمين من اليد لها صور كثيرة مثيرة وأنواع مختلفة، ينبغي على المسلم أن يفكر فيها كثيرًا، وأن يراعيها، وأن يتقي الله ﷻ وأن يعلم أن لقاء الله قريب.

فإذا كانت نظرة المسلم قاصرة على ما في الدنيا قاصرة على تحقيق مكاسب دنيوية فحسب، فلا يرجى من مسلم هذه حاله وهذا تفكيره أن يراعي الله في حق إخوانه المسلمين، لهذا يجب علينا أيها المؤمنون أن نكون يدا واحدة، وأن نكون جسدًا واحدًا «المُسلِمُ أخو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ» كما قال المصطفى ﷺ.

فهل يكون من الإسلام الصحيح أن نظلم؟ وهل ومن الإسلام الصحيح أن نعتدي على الأعراض، أو أن نعتدي على حرمات البيوت؟ ينبغي على المسلم أن يفكر في هذا الأمر كثيرا، وليعلم أن الحقوق مضاعفة، وأن حق المسلم على المسلم مبني على المُشَاحَّة بين يدي الله ﷻ، فكما قال العلماء: الدواوين ثلاثة:

  1. فديوان لا يغفره الله ﷻ وهو الشرك بالله.
  2. وديوان قد يغفره الله ﷻ وهو المعصية فيما بينك وبين الله ﷻ.
  3. وديوان لا يسامح الله فيه، بل أمره إلى الخلق، وهو حقوق الناس فيما بينهم.

فإذا اعتديت — أيها المسلم — على أحد باللسان، فاعلم أنه إن لم يُبحْ لك ذلك، وإن لم يَعْفُ عنك، فالقصاص يوم القيامة من حَسَناتِك يأخذها، أو من سيئاته تُؤْخَذ وتُطرح على سيئاتك، وذلك اليوم يوم عَصِيب أنت بحاجة إلى الحسنة وبحاجة إلى البعد عن السيئة، وهكذا فَلْنَسْعَ لأَن نَسْلَمَ من الإثم، وأن يَسْلَمَ إخواننا من المسلمين والمسلمات من النيل منهم باللسان أو باليد.

ثم قال ﷺ: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»، فلا يظن المسلم أن الهجرة هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام فحسب، فهذا نوع من الهجرة وسببه أن المسلم يكون بذلك قد تَرَكَ ما نهى الله تعالى عنه؛ لأن بقاء المسلم بين أَظْهُرِ المشركين، وهو لا يستطيع إظهار دينه، هذا نوع من ارتكاب ما نهى الله ﷻ عنه.

والهجرة الحقة أن يهجر المسلم ما نهى الله عنه، كل أنواع المَنْهِيَّات إذا تركتها فأنت مهاجر،؛ لأن معنى هَجَرَ الشيء أي: تَرَكَه إلى غير رجعة إليه، ولهذا قال المصطفى ﷺ: «فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسولِهِ»، قال العلماء: هذا الحديث يدل على أن الهجرة نوعان:

  1. النوع الأول: الهجرة إلى الله.
  2. والنوع الثاني: الهجرة إلى رسوله ﷺ.

فالنوع الأول، وهو الهجرة إلى الله ﷻ بأن تُهاجر إلى الله تاركًا غيره ﷻ، وأن تهاجر إلى الله طَلَبًا ما عند الرب ﷻ من أنواع الخيرات في الدنيا والآخرة تاركًا تَعَلَّقَ القلبِ بِما سِوَى الله ﷻ، مُهاجِرًا إلى الله وحده بإخلاصك العمل الله، وبرغبتك فيما عند الله.

وإذا عَظُمَ ذلك في القلب فلن يحدث ارتكاب لِمَنْهِيَّ نَهَى الله ﷻ عنه؛ لأن حقيقة الهجرة الهجرة إلى الله، ثم إلى رسوله ﷺ.

فالهجرة إلى الله هجرة إليه بالإخلاص وبتطبيق شرعه، وبامتثال كتابه، وبالرغبة في جَنَّتِه، وبتعظيم مَحَبَّته على كل محبوب.

ثم الثاني: الهجرة إلى الرسول ﷺ، وهي هجرة إلى سُنَّتِهِ، بأن تترك الرأي، وأن تترك العقل، وأن تترك الاختيار إلا اختيار المصطفى ﷺ فيما كان من أَمْرِ الدين، أما أن نقول نحن مهاجرون إلى الرسول ﷺ، مُتَّبِعُون له ومع ذلك نُقَدِّم آرَاءَنا على سُنَّة الحبيب المصطفى ﷺ، فذلك خُلْفُ من القول، وذلك ليس علامة على كمال إيمان مَنْ قال بذلك.

إذا كَمال الإيمانِ أنْ تُهاجر إلى المصطفى، هجرة إلى سُنَّتِهِ، فإذا سَمِعْتَ قولَه فَعَظَّمْ ذلك، ولم يكن قولك إذا سمعت سُنته إلا أن تَمْتَيْلَها وأن تترك الرأي. فالذين يقولون مثلا إذا عُرِضَ عليهم حديث للمصطفى ﷺ: وهل هذا معقول؟ أو هل يُعْقَلُ هذا؟ هؤلاء ما صَحَ دِينُهم، وما صح إيمانهم ولم يكمل؛ لأن علامة الإيمان أن تُسَلَّمَ للمصطفى ﷺ، أليس هو مُنَبَّاً مِنْ قِبل الله ﷻ؟ أليس هو الوحي الذي أوحاه الله ﷻ؟ أليس هو النور الذي مَنْ تَرَكَه عاشَ فِي الظُّلُمَاتِ؟

إذا فعلامة أهل الأهواء الذين لم يهاجروا إلى النبي ﷺ علامتهم أن يُعارضوا السُّنَّة بأقوالهم وآرائهم وأهوائهم. فالمسلم الحق هو الذي يَسْتَسْلِم للسُّنَّة بقوله وعمله، وإن وَقَعَ فِي عِصْيان فإنه لا يَلْبَتْ أَن يَرْجِعَ إلى ربه سريعًا طالبًا المغفرة، وسائِلاً الله ﷻ أن يُورِدَه حَوْضَ المصطفى ﷺ.

فالمهاجِرُ مَنْ هجَرَ ما نهاه الله عنه هذه حقيقة المهاجر؛ لأنه هاجر إلى الله وإلى رسوله ﷺ، فإذا قامت الهجرة إلى الله ورسوله، وهاتان الهجرتان تَفْتَح باب السعادة إذا غَشِيَتِ القلب، وعاش فيها القلب والصدر، تفتح أبواب النور والسعادة.

إذا تَحَقَّقَ ذلك في الصدر رأيت المؤمن يَهْجُر ما نهاه الله عنه، فلا يتخلف عن فريضة، ولا يَغْشَى كبيرة، وهذا من علامات الهجرة الصحيحة، لهذا قال ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسولِهِ:أي: مَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّةً وقصدًا وإخلاصا، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجْرًا عند الرب ﷻ.

اللهم اجعلنا من المسلمين حقًّا، وممن هاجروا إليك حقا.

اللهم اجعل قلوبنا مُعَلَّقَةٌ بك مُعَظَّمة لأمرك، معظمة لأمر رسول ﷺ.

اللهم نسألك أن تجعل حُبَّنا لك وحبنا لرسولك ﷺ فوق كل محبوب وفوق كل حُب.

اللهم إذا عُرِضَ علينا الشيطان بعصيان اللهمَّ فَعَظَّم حبك في قلوبنا، وعظمْ أَمْرَك ونهيك في قلوبنا، حتى تعيننا على ترك كل وسيلة من وسائل الشيطان.

اللهم إنا مذنبون فاغفر اللهمَّ جَمَّا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة البقرة].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه حقًا، وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.

ونجِد هنا: خطبة الجمعة مكتوبة عن فضل ذكر الله.. معززة بالآيات والأحاديث والقصص

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد.. فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يَدَ الله مع الجماعة، وعليكم بلُزُوم تَقْوَى الله في السر والعلن، وفيما بينكم وبين الناس، وفيما بينكم وبين الله. إذا خَلَوْتَ فلا تَقُلْ خَلَوْتُ، ولكن اعْلَمْ أَن الله ﷻ معك بعلمه حيث كنت لا تغيب عنه ﷻ غائبة في السموات ولا في الأرض. فَعَظْمُوا الله ﷻ وأَجِلُّوه فالحياء شُعْبَةٌ من الإيمان.

واعلموا رَحِمَنِي الله وإياكم أن ربكم ﷻ أَمَرَكم بالصلاة على نبيه ﷺ، فقال ﷻ قولاً كريما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة الأحزاب].

وهنا: خطبة عن أحب الكلام إلى الله

الدُّعـاء

  • اللهمَّ صلّ وسَلّمْ وبَارِكْ على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارْضَ الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يَعْدِلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
  • اللهمَّ أَعِزَّ الإسلام وأهله، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلام وأهله، وأَذِلَّ الشرك وجُنْدَه، يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين واحْمِ حَوْزَةَ الدِّين، اللهم انصر عبادك الموحدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان. اللهم انصرهم على عَدُوِّك وعدوهم من اليهود والنصارى والمُلحِدِين والوثنيين في كل مكان، يا رب العالمين.
  • اللهم أنزل على المجاهدين الطمأنينة وقَوِّهِمْ بِقُوَّتِكَ. اللهم أَمْدِدْهم بمَدَدٍ من عندك، ولا تكلهم لأنفسهم طَرْفَةَ عَيْنِ، يَا قَوِيُّ يا عزيز.
  • اللهم نسألك أن تُؤَمِّنَّا في دورنا، وأن تصلح وتحفظ ولاة أمورنا.
  • اللهم احفظنا وإياهم بالإسلام والإيمان، نعوذ بك أن نَخْزَى، نعوذ بك أن نَخْزَى، أو أن نَضِلَّ عن دِينِنا، اللهم اجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، يا أكرم الأكرمين.
  • اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلا أن تُبْرِمَ لهذه الأمة أَمْرَ رَشَدٍ يُعَزّ فيه أهل الطاعة ويُعَافَى فيه أهل المعصية، ويُؤْمَر فيه بالمعروف ويُنْهَى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
  • اللهم نسألك أن لا تُمِيتَنا إلا وقد وَفَقْتَنا لتوبة نَصُوح بها تَرْضَى عنا، وبها نفرح إذا قدمنا عليك، يا أكرم الأكرمين.
  • ربنا نعترف بذنوبنا، ونعترف بخطايانا، ونعترف بتقصيرنا، ونعترف بكل سوء فينا، اللهم أنت الغفور، وهذه صفتك ونحن أهل العصيان وتلك شاكِلَتُنا.
  • اللّهم اغفر فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.

عِبادَ الرَّحمن ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل]، فاذكروا الله العظيم الجليل يَذْكُرُكم، واشكروه على النعم بأعمالكم وألسنتكم يَزِدْكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [سورة العنكبوت].

وأقِـم الصَّـلاة..

هاهُنا انتهينا يا إخواني؛ فقد قدَّمنا لكم أعلاه خطبة بليغة مكتوبة ليوم الجمعة؛ بعنوان: حفظ اللسان والجوارح. كما أنّ لدينا المزيد من الخطب الأُخرى أيضًا؛ فما رأيك بالاقتراحات أدناه!:

والله نسأل أن ينفعنا وإياكم بكل هذه الخطب والدروس الدينية؛ ونلقاكم في مزيد منها إن شاء الله فيما هو قادِم.

أضف تعليق

error: