عيون ابنه الصغير

عيون ابنه الصغير

الشتاء يعلن عن قدومه برائحة غامضة في الهواء..

استيقظ الأستاذ عادل من نوم الظهيرة، كانت العتمة تزحف على الغرفة من خلال النافذة الموصدة وثمة هدوء عجيب في المنزل، وتذكر وهو يتمطى في استرخاء أن زوجته قد اصطحبت أطفاله في زيارة عائلية..

عجبا لقد كان مستغرقا في النوم إلى الحد الذي لم يشعر فيه بالجلبة التي يحدثونها حتما عند ارتداء الملابس ومغادرة المنزل.. والآن يمكنه قضاء أمسية هادئة في الشرفة يحتسي فنجانا من الشاي المعطر بالنعناع.

أمسية شاعرية

كان القمر يبزغ هادئا ورفيقا، ولذعة خفيفة من البرد في الهواء ورائحة النعناع في الشرفة، ومذاق الشاي الدافئ يستدعي ذكرياتٍ أدفأ.. ثمة شيء غريب لا يدري كنهه يولد في صدره في تلك اللحظة.. لا يجد تفسيرا واضحا، ولكنه يشعر بنفسه وكأنه ليس هو، وكأن سنوات عمره لا تمضي حثيثا نحو الخمسين، وتملَّكه حزن هادئ وهو يفكر أن عمره مر بسرعة الضوء أحيانا وبسرعة الحزن أحيانا أخرى، وبصمات السنين على وجهه شيخوخة مبكرة، وعلى قلبه نوبات متكررة من الذبحة الصدرية يتعاطى لها علاجا من التأمين الصحي.

من بعيد تناهى إليه نباح كلب عابر، مد طرفه خلال الظلمة حتى استكانت عيناه على نجمة لامعة هربت من غيم الشتاء.. وتساءل في نفسه لماذا يستعيد مشاعر شبابه المبكر، عندما كان يتوهج في داخله ويذوب رقة كلما نظر للسماء ذات النجوم.. لقد دارت الأيام دورتها واكتسى جسده بالشحم واللحم وصار له كرش محترم ووجه بليد وهو يضرب أطفاله الآن بانتظام، خصوصا ابنه الصغير الأبله كلما ضاقت نفسه من حياة الفاقة التي يحياها، وكثيرا ما تضيق.

هو موظف مطحون لم يحقق في حياته الوظيفية غير الإخفاقات، ولم يشعر قط بأهميته، دائما في صدام متكرر مع رئيسه ومحاولة اقتناص أية إجازة ممكنة والتزويغ من العمل غير ملق بالا لوقار كهولته.

ولكن ما الذي دفعه لاسترجاع ذلك كله.. حسبه الآن أنه يولد من جديد وترق أحاسيسه وتصفو، ويعود شابا في الخمسين، بل طفلا يتعلم الكلام ويشعر بالدهشة ويلوذ من البرد الجميل بدفئه الداخلي.

استنشق الهواء المعطر البارد ثم أطلقه في ارتياح وكان القمر باسما ورفيقا.

وعلى صوت بكائه.. نام

في الصباح التالي عندما استيقظ الأستاذ عادل أحس بقلق غامض ينتابه فقد كانت كمية الضوء في الغرفة أكثر، مما اعتاده في تلك الساعة التي اعتاد الاستيقاظ فيها.. قفزت عيناه إلى عقارب الساعة فوجدها تشير إلى الثامنة صباحا.

قفز مفزوعا وبحركة واحدة وضع نفسه في ملابسه دون أن يتوقف للتفكير فالحافلة توشك أن تتحرك، وعدم اللحاق بها يعني عدم الذهاب للعمل، وهذه ليست مشكلة لو كان رصيده في الإجازات يسمح، أما وقد استنفد رصيده كاملا، وكان على خلاف مع رئيسه الذي يتصيد له الأخطاء فعدم اللحاق بالحافلة يعني التوجه رأسا إلى الشئون القانونية بما يترتب على ذلك من ضياع جزء لا يستهان به من راتبه الذي لا يكفيه أصلا.

لم يفكر الأستاذ عادل في ذلك كله حينذاك، وإنما جرى ذلك في ذهنه مثل ومضة خاطفة، ولم يكن لديه أيضا الوقت الكافي ليفكر في أسباب تأخره في الاستيقاظ.. مجرد صورة ضبابية في ذهنه عن أحداث الأمس.. كان كل ما يعنيه في تلك اللحظة هو اللحاق بالحافلة.. مضى يعدو في الطريق ويلهث دون أن يكون قد استيقظ تماما بعد، كان نصف نائم، ولم تكن حواسه قد انتبهت رغم الهواء البارد الذي يلهب صدره بسوط أليم، وثمة انقباضة في صدره تنذر بنوبة قلبية قادمة.

ومن بعيد لاحت له الحافلة تتحرك وتبتعد.. أدرك أنه يركض دون جدوى، ولكنه ظل يعدو حتى اختفت الحافلة تماما عن ناظريه.. إن صدره يوشك أن ينفجر من فرط الضيق، وإن صدغيه ينبضان بصداع مرهق وألم هائل يشق ذراعه الأيسر.. جلس على قارعة الطريق ليلتقط أنفاسه وفجأة تذكر كل شيء.

تذكر السبب الذي تأخر في الاستيقاظ من أجله، سهرة الأمس الشاعرية، والقمر البازغ، والنجمة الوحيدة، ولكن ما أهمية ذلك في ضوء النهار الحافل بالضجيج والغبار.. مضى عائدا صوب منزله، فليكن ما يكون، إن الحياة لن تتوقف لمجرد أنه لم يذهب إلى عمله أو تم خصم جزء من راتبه أو تشاجر مع رئيسه.. لن يتضور جوعا، وهب أن ذلك حدث فلن يكون أسوأ مما هو فيه بالفعل.. كفى ذلا؛ أليس من القسوة ألا يستطيع بعد عشرين عاما من العمل أن يمتنع عن الذهاب إلى عمله.. كل ما يعنيه الآن هو أن يمضي إلى فراشه وينام.. ينام نوما عميقا.

دلف إلى داخل المنزل فوجد ابنه الصغير يرمقه في بلاهة.. كان ثائرا ولم يزل.. متمردا على ذله وخنوعه والخوف الذي يحتم عليه وهو الرجل المريض أن يعدو في الطرقات ولم يكد يستيقظ بعد.. ثم إن ولده كان يرمقه في دهشة لا مبرر لها على الإطلاق، ناعم البال.. خالي الذهن من جميع تكاليف الحياة؛ ولذلك أحس بالثورة تعترم في صدره لدى رؤيته هذا الصغير فاتجه إليه في إصرار ثم مضى يضرب ولده الصغير الذي ارتفع صياحه إلى عنان السماء، ولم يفلته إلا بعد أن نال “علقة” ساخنة، وعلى صوت بكائه الرتيب نام.

و”علقة” أخرى ساخنة

عندما استيقظ لدى غروب الشمس كان ثمة إحساس غريب يتملكه.. إحساس مبهم بأحداث غير معتادة مرت به في الساعات القليلة السابقة.. وسرعان ما تذكر كل شيء.. اعتدل في فراشه وهو يشعر بالبرودة، لقد جاء الشتاء يقينا ويجب أن يرتدي الملابس الشتوية الثقيلة فحالته الصحية لا تحتمل التعرض لنوبة برد مقبلة حتما.

ولكن ما باله يفكر في هذه الأمور التافهة؟ إن ذهنه يجب أن يصفو ليستعيد أحداث الأمس، والمعضلة العويصة التي تورط فيها بغيابه عن العمل صباح اليوم.. لا شيء يستطيع أن يفعله، ليس لديه أي رصيد متاح من أية إجازة ممكنة والحل الوحيد هو الذهاب للقومسيون لمحاولة انتزاع إجازة مرضية بأي شكل مهما تشاجر مع الأطباء.

ماذا يفعل وراتبه لا يكاد يكفيه وهو لا يدخن ليمتنع عن التدخين ولا يوجد أحد يقرضه، ولا أي فرصة للعمل الإضافي.. لقد كان مستخفا بذلك في الصباح، ولكنه رجل مسئول شاء هذا أو أبى عن زوجته وأطفال لهم شهية ممتازة.. ملعون أبوهم يجب أن يتأهبوا للصوم الشهر القادم.. ولكن لماذا حدث هذا كله؟ آه يتذكر الآن.. هذه الأمسية المنحوسة التي جلس في شرفة منزله يرمق فيها القمر ونجمة وحيدة تافهة.. كل ذلك مراهقة، وعبث طفولي، وأوهام سخيفة ولكنها كلفته غاليا.

انتفض ساخطا على نفسه، ضيق الصدر لا يدري ماذا يفعل بنفسه.. واندفع ثائرا من غرفته الضيقة فاصطدم بذلك الصعلوك الصغير ابنه، كان ولده لم يزل يرمقه بذات النظرة البلهاء السخيفة ومرة أخرى لم يزل مصرا على الاحتفاظ بملامحه الناعمة غير المكترثة.

كل ذلك كان مستفزا للأستاذ عادل إلى الحد الذي يصعب معه احتماله.. طفقا يتبادلان النظر لبرهة، ثم امتدت يداه فطوقتا الطفل الأبله الذي نالته علقة ساخنة مرة أخرى..

وكان القمر كاسفا وحزينا.

بقلم: د. أيمن محمد الجندي

⇐ وقد ترغب أيضًا في الاطلاع على:

أضف تعليق

error: