مصر اسمها “أم أسامة”

مصر اسمها "أم أسامة"

لماذا اخترت هذا العنوان بالذات رغم أن الشاعر “أسامة الدناصوري” لم يستغرق في الكتابة عن والدته أكثر من صفحتين في كتابه الأخير (كلبي الهرِم، كلبي الحبيب) الذي رحل بعده عن الحياة؟، لماذا لم يحمل المقال اسمه، أو عنوان كتابه، أو الأحداث الهامة فيه؟.. لابد أن هناك سببا قويا دفعني لذلك، هذا ما ستعرفه مع آخر سطور هذا المقال.

اعتدنا أن نتغنى بالأمومة، تلك القطرة من رحمة الله التي يرفع الفرس بها حافره عن وليده، وتمزق القطة من يقترب من أبنائها.. حنان الأم النفيس، التفاني، الحب المبذول بلا ثمن، التضحية والرحمة والإخلاص.. كل هذا نعرفه، كل هذا اعتدناه.. لكن الكتاب يسجل لنا دون قصد، في سرعة وعجالة، نوعا راقيا من الحب استحق بسببه هذا المقال.

سنقرأ الكتاب ونتعلم أن نشكر الله على نعمه الباطنة.. سنكتشف أن أبسط الأشياء التي نمارسها طيلة الوقت -دون أن نوليها اهتماما أو نعتبرها نعمة- تصبح وبالا علينا إذا أصابها العطب.. هذا الهواء الذي تستنشقه في يسر قد يتحول لسياط نار إذا التهبت شعبك الهوائية.. عملية الإخراج التي تتم في هدوء بعيدا عن أعين الناس تصبح عذابا جهنميا مع الإمساك.. وجبة الطعام الشهية تتحول إلى قنبلة من ألم إذا التهبت معدتك.. شربة الماء تصبح كابوسا إذا أصبت باحتباس بول.

في هذا المقال سنكتشف عالم المرضى الحقيقي ونغوص في تفاصيله الدقيقة التي تصنع الحياة.. حتى الأطباء يحتفظون لأنفسهم بمسافة ويتعاملون مع المرضى بحياد مهني، وأحيانا كأرقام.. نسبة السكر في الدم.. مستوى الكرياتنين.. ارتفاع إنزيميات الكبد وانخفاض نسبة الهيموجلوبين.. كلها أرقام صماء.. ولكن أين الإنسان الحقيقي خلف هذه الأرقام؟.. أين حزنه وخوفه ورعبه!!، أين همود الجسد وانكسار الروح!!، كلها أشياء لا تترجم لأرقام.

الحياة مع الألم

“أسامة الدناصوري”، مرشدنا إلى عالم المرضى الحقيقي، سوف يأخذ بأيدينا خطوة بعد خطوة ويعلمنا كيف نشعر بالمريض ونشكر الله على نعمة العافية..

كان مستعدا للتنازل عن الدنيا كلها مقابل أن يتبول دون ألم.. بدأت قصته مع المرض منذ ولادته.. كان عمره خمسة عشر يوما حينما لاحظت أمه بكاءه المتصل، يصرخ حتى يزرقَّ لونه ثم يكف البكاء مع انسياب البول منه.. تم تشخيص الحالة مثانة عصبية، وعلى الرغم من حبسها البول فإنها كانت ترتخي أثناء النوم، الوضع ببساطة احتباس بول بالنهار وتبوّل لا إرادي بالليل.

كان الحل الأمثل هو قطع الصمام تماما وإحداث سلس دائم للبول، تجنبا لخطر الفشل الكلوي القادم بسبب ارتجاع البول للكليتين وتدميرهما تدريجيا.. لكنه رفض هذا الحل.. فليأت الفشل الكلوي وقتما يأتي لكني لن أعيش بسلس البول يوما واحدا.

بالتدريج فرض عليه التبول اللاإرادي طقوسا سرية لم يتهاون يوما في أدائها: لا يماطل إذا شعر برغبة في التبول.. بضغط بأصابعه على المثانة ويحزق حتى يطرح عنه أكبر قدر يستطيعه، يدخل دورة المياه قبل الحصة وقبل الطابور وقبل السينما وقبل السفر وقبل المحاضرة وقبل الندوة وقبل زيارة الغرباء وقبل النوم.. يفرش مشمعا على السرير ويتعلم ألا ينام باستغراق.. أمامه أمران كلاهما مر: إما أن يبلل ثيابه أو يرتجع البول إلى كليته فيتلفها.

وبرغم هذه الاحتياطات فكثيرا ما كانت تفاجئه بقعة صغيرة على البنطلون تتسع باستمرار.. هذه هي النار التي نضجت عليها مراهقته وصباه.. لا يذكر كم من المرات دخل المستشفى، أو تردد على جراحي المسالك البولية دون بصيص من أمل.. الكل حفظ وجهه: الأطباء والممرضات والمرضى أنفسهم، وفي أعقاب كل نوبة ارتجاع يثبتون القسطرة حتى تطرح الصديد العالق..

مع المراهقة بدأت الغرائز الغامضة تدب في أوصاله مسببة له عذابا جهنميا يحاول بكل وسيلة أن يتجنبه.. من أجله تعلم كيف يمارس رياضة روحية أشبه باليوجا ويركز طاقته الخفية كي تهدأ رغبته ويرتخي.

بداية النهاية

25/ 2/ 1995 تاريخ لن ينساه أبدا، فاصل بين عهدين، انتهت علاقته بعده بأطباء المسالك البولية، تلك التي دامت عشرين عاما، لتبدأ علاقته بعالم الغسيل الكلوي.

“الكرياتينين”.. ذلك المؤشر الذي لا يكذب، ارتفع بصورة مفاجئة.. هذا يعني أن كابوس الفشل الكلوي قد تحقق، وبرغم أنه كان يعلم –طيلة عشرين عاما- أنه قادم لا محالة، إلا أنه فوجئ كمن سمع حكما بإعدامه أو حبسه تحت الأرض باقي حياته.. راح يجوب الشوارع ممتلئا بالبكاء ورثاء النفس.. كان زرع الكلى في الحسبان لولا أن المثانة هي أصل الداء، ولذلك يجب استئصالها وزرع مثانة صناعية، بجزء من القولون، عبارة عن كيس لتجميع البول، يوضع في تجويف البطن ويتم تفريغه كل فترة عبر أنبوب يخرج من الجنب كحنفية.

استبشع الفكرة وفضَّل غسيل الكلى، لسنوات قادمة تردد على كل مراكز غسيل الكلى في أنحاء القاهرة.. يخلع حذاءه.. يزن الكيلوجرامات الزائدة التي سيتم سحبها أثناء الغسيل ليعود لوزنه الطبيعي.. يستمع إلى هدير الماكينات العملاقة، تتدلى منها خراطيم بلاستيكية شفافة.. تومض الماكينات بألوان حمراء وصفراء وخضراء، يشاهد دمه المتسرب عبر الفلاتر والخراطيم ليتم تصفيته من جديد، تلك طقوس حياته التي يجب أن يتحملها.

قبلها خضع لإجراء عملية وصل بين الشريان والوريد.. يفتح الجراح ذراعه، ويبحث عن الشريان حتى يجده ثم يبرزه على السطح ويقوم بخياطته في الوريد فيصبح الوريد شريانا يتدفق فيه الدم قويا آتيا من القلب مباشرة.. بذلك فقط يمكن إتمام الغسيل الكلوي، وإذا توقفت توقف الغسيل.

عمليته الأولى ظلت صالحة ثماني سنوات ثم كفت عن الحياة كمصير كل حي.. صار الوريد متليفا كالحبل، ولم يعد يسمع الصوت الأليف كلما وضعه على أذنه بعدها أجرى عملية في ذراعه الأيسر غسل بها شهرين ثم توقفت الوصلة، فانتقل إلى الذراع الأيمن، ثم عاد إلى الذراع الأيسر حتى استنفد كل الأماكن الصالحة في جسده، ولم يبق إلا زراعة وريد صناعي.

هشاشة العظام كانت حتمية، تلك الزائرة السمجة التي تهبط على الشيوخ في أرذل العمر ولا تفارقهم حتى تدخلهم القبر، أصابته في السادسة والأربعين فراح يتساءل: لماذا لم يعد يرى مريضا أقدم منه يغسل كليته، وهل أصابتهم الهشاشة قبل موتهم أم أن حظهم البائس لم يسعدهم ليجربوها مثله؟!.

معذرة.. لقد أصيب جهازك السمعي بعطب دائم بسبب إفراطك في تناول المضادات الحيوية ولا سبيل لإصلاحه، هكذا أخبره الطبيب في بساطة قبل أن ينتقل إلى فحص المريض التالي.. الأمر بسيط جدا يا سيدي ولا يجب أن تنزعج، فقط رتب حياتك من جديد.. اقترب من الممرضة حين تنادي الأسماء وإلا فلن تسمع اسمك وستبقى منتظرا إلى الأبد.. أطفئ كل الأجهزة حولك، حتى قابس الثلاجة انزعه إذا أردت أن تسمع جرس الباب، أنظر من العين السحرية من آن لآخر وغالبا ستجد صديقك واقفا أمام الباب، يدق الجرس من نصف ساعة.

آه يا أم أسامة

الوجه ينتفخ، والوصلة متوقفة ولا أمل في إصلاحها.. الأوردة الرئيسية مسدودة، والنهاية محتومة.. يراها “أسامة” ويراها أصدقاؤه، وتراها أمه قبل الجميع.. لكن موته لا يشغل بالها بقدر هذا الشيء:

– أنت مش حتريحني يا “أسامة” وأشوفك بتصلي!!

– يا بني أنت عاوز تتعذب دنيا وآخرة!!

– يا بني أنت تعذبت كتير في حياتك يا حبيبي، عاوز تدخل النار!!

– طب وعذاب القبر يا بني!!

ويقول أسامة متلطفا:

– أنا باصلي يا ماما، بس مش بانتظام، وربنا عالم وشايف كل حاجة.

تسمع ماما كلامه ولا يبدو أنها اقتنعت.. لذلك تنظر إليه في رعب وتقول:

– قل لي يا “أسامة”، أنت مؤمن بربنا والإسلام؟.. مؤمن إن فيه جنة ونار، أنت إيه يا بني قول لي!!

– إيه الكلام ده يا ماما؟ يا خبر!!، طبعا مؤمن.. ومؤمن جدّا كمان.

وفجأة حدث الشيء الذي لم يتصور “أسامة” إمكانية حدوثه قط، هكذا يحكي لنا في كتابه، كان جالسا على الكنبة، وأمه إلى جواره.. وفجأة انحنت.. انكبت على قدمه وقبلتها!!..

(أمي قبَّلت قدمي!!)

(أمي قبَّلت قدمي!!)

(أمي قبَّلت قدمي!!)

للحظات ظل عاجزا عن تصديق ما حدث وأصابه الهلع والارتباك.. قالت متوسلة:

– يا بني يا حبيبي، مش هاتصلي بقى وتطمني عليك قبل ما أموت!.

تقصد طبعاً (قبل ما تموت)، هي خائفة -حد الرعب- أن يذهب إلى الجحيم.. كان مريضا، يعاني من فقر الدم، لا يستطيع الحركة بدون دوار، ضربات قلبه سريعة تدوي في رأسه كالطبول.. لكنه تحامل على نفسه، توضأ وافترش الأرض، وراح يصلي أمامها بالضبط غير قادر على الانحناء والركوع.. لكنه كان سعيدا لأنها راضية..

وينتهي الكتاب.. وينتهي “أسامة”، ولا ينتهي الشجن.. مات الجسد وذهب الألم وبقى الأجر إن شاء الله.. وتظل القبلة الغالية أسمى تعبير ممكن عن الحب، وأرقى نوع عرفناه من مشاعر الحنان..

آواه يا أم “أسامة”.. يا عبير الأمهات ورحمة الله الغالية، أبكيتنا وأوجعتنا، وأشعرتنا بحقارة اهتماماتنا الصغيرة.. الآن أفهم لماذا يصورون مصر في صورة امرأة!!.. الآن أعرف أن اسمها “أم أسامة”!!.

بقلم: د. أيمن الجندي

⇐ واقرأ أيضًا إن رغبت:

أضف تعليق

error: