تدافيس المرض – “جاصوصة” مازالت فيه الروح

لست أدرى من هو الأستاذ “جاصوصة” الذى مازالت فيه الروح.. يبدو أنه شيخ مهم، أو وريث منتظر، أو قائد همام، أو ربما العكس.. شخص ينتظروا موته ليرثوه أو يتخلصوا منه.. المهم إنها جملة تقولها أمى حين كان يمرض أحدنا وينهار في الفراش تماما ثم فجأة يستقيظ بنصف حيل ليجلس ويطلب شيئا يأكله أو يشربه فكانت تهز رأسها ضاحكة بخبث وتقول: جاصوصة لسه فيه الروح.. أي أنه لم يمت بعد.. وأنا كنت جاصوصة ولا زلت.

أول الرحلة.. سوريا

فراش المرض غريب الشكل والتكوين.. ومرضي بدأ بطريقة سينمائية.. كنت عائدة من دمشق من رحلة أسبوع.. وأنا فعلا لم أندم على زيارة دولة كما ندمت على زيارة سوريا.. تغير شئ بداخلي تجاه بلد عشت أحبه بشغف، وأحب أهله، وإن كنت عكس كل الناس لم أحب طعامه كثير التوابل فأنا من النوع الذى يحب أن يستطعم.. يعني ملح وفلفل وبس.

أنا أحب سوريا وأحب أهلها وأحب لكنتهم الناعمة وكلماتهم الحنونة.. من أول “تقبريني”، إلى “فهمتي كيف”، أو “فاهمانة على؟”، أو “وقفي لأشوف ياقلبى” –حين تريد إحداهن أن تنظر إلى ترتيبة ملابسي وضبط ذوقياتها– ثم “ما شاء الله وكان على جمالك” من باب المجاملة وأنا أعلم تماماً أن جمالي لا يستحق أي أدعية من هذا النوع.. خلقة ربنا شريفة على رأي أمى.

وتصورت أني سأرفل بين أخواتي وحبيباتي في دمشق حين أطأ أرضها، فأنا أساساً لدي في قلب القاهرة من الصديقات السوريات الكثير، ولكني وجدت بلداً مختلفاً.. بلداً قديماً –ولا أجد وصفاً آخر– يعيش في زمن بعيد، ربما لأن بلدنا أصبحت واسعة الإنفتاح كثيرة التحولات السكانية والمكانية، شعرت أني عدت الى طفولتى في الستينات.. شكل المحال.. أسمائها.. رعشة خوف لا تعرف مصدرها تحيط بك أثناء سيرك.. وكأن أحدهم يتبعك.. أو سيخرج لك من أول ناصية يستوقفك ويطلب البطاقة.. يبدو أن العولمة غيرت بداخلنا بعض الأشياء فأصبحنا نستأنس بالمحال العالمية التى نعرفها وألوانها البراقة وإضائاتها المميزة.

إنما الشهادة لله شعب نظيف جداً.. دخلت بعض الحوارى متعمدة فلم أجد على الأرض ورقة.. وبكل أسف وإحساس بالحرج دخلت سوق الحميدية، وهو يشبه أسواق العتبة والكانتو وخان الخليلى، ولكنه مغطى –كمان– مقفول يعنى، وكنا نسير بين الناس بزق الكوع والكتف فلم أشم –لا مؤاخذة– رائحة عرق، وركنت على جدران المحلات لأرتاح فلم أهرب من رائحة النشادر المنبعثة من البول المنتشر في الأركان… يا مصيبتى؟ لماذا صار أهلنا بكل هذه القذارة؟، السوريون ليسوا بعيدين عنا.. لا ثراء ولا تقدم ولا أي حاجة.. كأنك في مصر، ومصر زمان كمان.. طب مفيش في الشوارع حمامات، مفيش في بيوتنا؟، واللا هم مبيعرقوش؟؟، واللا احنا عرقنا فرعونى معتق! ياخسارة.

العيد في بلدنا

المهم عدت من سوريا لأقضى أول أيام العيد الكبير في بلدنا.. سنتريس –أبوكبير– شرقية.. والعيد الكبير لا يمكن أن يكون إلا في بلدنا –أنا مش عارفة اللى معندهمش بلد بيعيدوا ازاي؟– وأنا أضحك من غلبي طبعا.. هذا هو الحكم القراقوشى التى تصدره أمى: يجب أن نذبح في البلد، ونوزع على أهلها، دي بلدنا وسر خيرنا وعزنا.. ولا هي بلد ولا أهلها فلاحين ولا لها أي أسرار، وأصبح فيها بدل المليونير تلاتة وأربعة، ومن يذبح ويوزع عددهم أكتر ممن يتلقى.. ما علينا أظل أدعو الله أن يتأخر العيد أو حتى يصدر أمر بإلغاء الذبح أو حظر التجول حتى أجد سبب لعدم السفر.

لقد أصبحت أيام التاسع والعاشر والحادى عشر من ذى الحجة؛ يعنى الوقفة وأول يومين في العيد الكبير هم العذاب السنوى بعينه، فأنا الابنة الوحيدة لأمى، وأخوتى البنين لا يجوز أن يفعلا أى شئ.. ده عيب حتى واحد دكتور والتانى مهندس، يكونش أنا اللى بفك الخط.. ثم إن زوجتيهم غريبات – ده مش بيتهم ميعرفوش عوايدنا–.. عوايدنا إيه؟ كل واحدة لها ما يزيد عن 25 سنة متزوجة، خلاص بقى زمانها حفظت كل حاجة.. إنما أبداً.. أنا المسئولة عن الضيافة، و(نفسنا في كفتة مشوية من اللى بتعمليها يانانى بتبقى ولا بتاعة الحاتى).. هذا الكلام يوم الوقفة، الكل صائم والأغلب نائم أو يقرأ جرائد الشهر التى احتفظ بها لهذا اليوم المجيد الطاهر الذى سيتمدد فيه في الشمس على الكراويتة.. يتبقى بناتي؛ وأنا أمنعهن من المساعدة اشمعنى هن؟ لأخوتي بنات لا يفعلن شيئا غير التليفزيون.. لا يجب أن ينضم بناتي وزوجات أبنائى إلى حزب الضيافة.. كفاية أنا.

إنما الحقيقة بيساعدونى في القاهرة قبل السفر بتحضير كل ما يمكن تحضيره مسبقاً.. وتظل آخر عنقودي يا حبيبة قلبى تقلب في اللحمة المفرومة والبصل لما إيديها بتبوش.. وآخر عنقودي في الجامعة، ورغم أنها أصغر أبنائي إلا أنها الممشوقة الطويلة بينهم، وما كنتش عاوزاها!!! غباء بعيد عنكم.

شاي وبطاطا وسوداني

أقضى يوم الوقفة أجهز صواني الرقاق والمشويات.. وبعد العشاء وبما إن العيد شتوي منذ بضعة أعوام يوقد أخي “شوالي النار” في الحديقة و(ياللا.. الشاى والقرفة من ايديك الحلوة يانانى.. ماتغسلى شوية فاكهة.. أم محمد كانت جايبة سودانى وبطاطا..هاتى شوية نشويهم).. والحقيقة ربنا يكرمها ويبارك فيها أم محمد وابنتيها بيشيلوا عنى كتير على الأقل التنضيف، وطبعا شرب الشاى على الشاليه.. والبطاطا والسودانى على صواني الصاج شئ ممتع ورائع؛ على شرط أن تجد من يقدم لك ذلك.

المهم يأتى يوم العيد وما يليه بالدبح والتقسيم والتقطيع وإعداد الفطار، واحنا أسرة بتفطر كبد وكلاوى وتتغدى فتة ولحمة مسلوقة.. إنما الأجيال الشابة لا تشاركنا هذه الرغبات وبالتالى يجب عمل بيض وفول وبعض أنواع من الجبن حاجات بالطماطم وأخرى بالزعتر، طيب وأدلعهم وأعمل لكل واحد صنف بيحبه ليه، أمى زمان كانت تضع صنفاً واحداً إجباريا واللي ياكل ياكل ماياكلش يتفلق.. ولكني لا أستطيع؛ ممكن حرمان الأبناء من أشياء كثيرة لأنها ضارة أو حرام ولكن يجب ترك مساحة من المزاج أو الرغبات الخاصة في الأشياء الأخرى.. حيبقى كله ممنوع؟.. البنطلون للبنات والسجاير للبنين والبيض بالبسطرمة للكل!!.

وللحديث بقية..

بقلم: د. نعمة عوض الله

⇐ واقرأ أيضًا لدينا:

أضف تعليق

error: