خطب تقشعر لها الأبدان.. الرحمة المهداة – مكتوبة

خطب تقشعر لها الأبدان , الرحمة المهداة , خطبة مكتوبة

وأنتقل -وإياكُم- لوصف: خطب تقشعر لها الأبدان. ولديّ واحِدة يُمكنكم إدراجها تحت هذا الوصف؛ وهي بعنوان: الرحمة المهداة. وأعتقد أنكم فطِنتم إلى محتواها. بالطَّبع عن الرَّسول والنبي والنعمة المسداة، سيدنا محمد ﷺ.

عناصر الخطبة

  • بعثة سيدنا محمد ﷺ من أعظم مظاهر رحمة الله ﷻ.
  • شريعة النبي ﷺ اشتملت على معاني التيسير ورفع الحرج والرحمة بالخلق أجمعين.
  • النبيّ ﷺ مظهر للرحمة العامة الكاملة، فهو رحيم في حياته ﷺ وسنته دليل رحمته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
  • رحمة النبيّ ﷺ حتى شملت جميع الخلق، فلم تقتصر على البشر، بل تجاوزت ذلك لتصل إلى الحيوان والشجر والحجر.

الخطبة الأولى

إنّ الرحمة الإلهية من أجلى صفات الله ﷻ وأعظمها وأظهرها في الوجود، وقد شملت رحمة الله كل شيء، فهو ﷻ ذو الرحمة الواسعة، قال الله ﷻ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقد جعل الله تدبيره للعالم قائماً على الرحمة والتفضل والإحسان، قال ﷻ: ﴿قل لمن ما في السموات والأرض قُل للهِ كتبَ على نفسهِ الرحمة﴾، وقال ﷻ: ﴿ورّبك الغنيُ ذو الرحمة﴾

ومن أعظم مظاهر الرحمة التي امتنَّ الله بها على العالمين عامة وعلى المسلمين خاصة أن بعث سيدنا محمداً نبياً ورسولاً ورحمةً مهداةً منه ﷻ، وسماهُ الله ﷻ رؤوفاً رحيماً، قال ﷻ: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾.

فسرُّ محبتنا وتعلقنا بنبينا ﷺ هو استشعارنا محبة النبي ﷺ لنا، وحرصه على هدايتنا، ومعرفتنا أنه مظهر من مظاهر تجليات رحمة الله ﷻ على عباده، وذلك في كل مرحلة من مراحل حياته ﷺ، وفي كل أوقاته وأحواله، ابتداءً من ولادته ﷺ، وحتى بعد وفاته إلى يوم القيامة يوم الشفاعة الكبرى، يوم ينادي نبينا ﷺ، ويناجي ربه (أمتي، أمتي)، فيجيبه ربه ﷻ: «سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك»، فما أعظمها من رحمة، وما أعظمه من نبيّ ﷺ.

عباد الله: لقد كان نبينا محمد ﷺ خاتم النبيين، فلذلك اشتملت شريعته على أحكام كثيرة تتجلى فيها معاني اليسر ورفع الحرج والرحمة بالخلق أجمعين، فهو ﷺ الهادي البشير، والسراج المنير، قال الله ﷻ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].

إنّ النبي ﷺ مظهر للرحمة العامة الكاملة، وأمان للبشرية من العذاب والهلاك، فلم يقع للأمم من بعده العذاب والاستئصال كما حصل مع الأمم السابقة؛ قال ﷻ: ﴿وما كان الله لِيُعَذِّبَهم وأنت فيهم وما كان الله مُعذّبهم وهم يستغفرون﴾.

كان عليه الصّلاة والسّلام رحيماً في أحواله وأقواله وأفعاله جميعاً، فلم يكن معنفاً ولا مقبحاً ولا غضوباً، وقد حوصر في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ووضع فرْث الجزور على ظهره وهو ساجد، وأخرجه أهل الطائف من بلدهم ورمَوهُ بالحجارةِ حتى أدموا قدميه الشريفتين، ونزلَ عليه جبريل ﷺ يقولُ لهُ: لو شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين، فقال ﷺ: «بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له»، فقال له جبريل: صدقَ من سمّاك الرؤوف الرحيم، وفي هذا الحديث مثل رائع من شفقته ﷺ على أمته، وحرصهِ على أن تكون خير الأمم.

لقد فاقت رحمة النبيّ ﷺ رحمة الأنبياء عليهم السلام بأممهم، فهو جامع لرحمتهم جميعاً، لقد تلا ﷺ قول إبراهيم ﷺ: ﴿فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم﴾، وقول عيسى ﷺ: ﴿إنْ تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيز الحكيم﴾، وكلّ منهما يطلب المغفرة لأمته، فماذا عساه يفعل وهو أكثر منهما شفقة وحرصاً، لقد قرأ ﷺ الآيتين في ليلة وهو يبكي ويتضرّع إلى الله ويرفع يديه إلى السماء.

ففي يوم أُحد؛ شج المشركون رأسه ووقع في الجرف، وأخذ ينزف دمه الشريف من رأسه ووجنتيه، فقال له سيدنا عمر: يا رسول الله أُدعُ عليهم، فرفع ﷺ يديه، وقال: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون»، وغيرها من الأحاديث والروايات الدالة على رحمته، روي أن طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه قدموا على النبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: «اللهم اهد دوساً وأت بهم».

وروي أيضاً أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله، أخرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، قال: «اللهم اهد ثقيفاً»، فكان دأبه الرحمة دائماً، وهؤلاء الذين آذوا نبينا ﷺ هم أنفسهم الذين قاتلوه وأخرجوه من مكة، وحينما عاد إليها فاتحاً أعطى راية الكتيبة الخضراء لسيدنا سعد بن عبادة، فقال رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ اللهُ قريشاً، وينقل ذلك أبو سفيان قائلاً: يا رسول الله أمرتَ بقتل قومك، فأنت أبرّ الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس، فبعث وراء سعد فعزله عن قيادة الجيش، وقال: «اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشاً»، هذا نبي الرحمة، الذي عمل على حقن الدماء وتكثير سواد المسلمين.

سيدنا محمد ﷺ هو الرحمة المهداة فلم يكن توَّاقاً لإراقة الدماء ولا سبي النساء ولا قتل المستأمنين، بل كان ﷺ يوصي جيشه أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يُمثِّلوا، ولا يقتلوا أحداً بذنب غيره، أطلق شعار الرحمة على عتبات مكة، قائلاً: «من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، ثم سألهم في صعيد واحد: «ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟» فقالوا: خيراً أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال ﷺ: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، إذا كان هكذا تعامل نبي الرحمة ﷺ مع أعدائه، فكيف تعامله مع أصحابه وأحبابه؟

لم يكن النبي ﷺ إلا رحمة وهادياً، ولم تكن دعوته إلا نبراساً وضياء، قال الشاعر:

أُرسلت داعيةً من الرحمن
ودعوت فاهتز لك الثقلان

أخرجتَ قومك من ضلالات الهوى
وهديتنا للواحِد الديان

وأما جوانب الرحمة النبوية بالأمة في حياته ﷺ فهي كثيرة؛ فلم يلعن أُمّته ولم يدعُ عليهم، ولم يتبرأ منهم، بل كان يدعو لهم في حياته، لا بل لم ينسَنا بعد مماته؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «حياتي خيرٌ لكم ومماتي خيرٌ لكم، تُعرضُ عليَّ أعمالُكم، فما رأيتُ من خيرٍ حمدتُ اللهَ عليه، وما رأيتُ من شرٍّ استغفرتُ لكم».

ويوم القيامة يوم يُحشرُ الناس حُفاة عُراة غُرلاً بهماً والشمس تدنو منهم باعاً أو ذراعاً، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً، تموج الخلائق موج البحر، فيطلبون من يشفع لهم ليستريحوا من ذلك الكرب، فيذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم لبدء الحساب، ليرى كل سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيعتذر عنها الأنبياء الخمسة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد ﷺ، فيذهبون إليه، فيقول: (أنا لها أنا لها)، ويشفع لأهل الموقف عند الله لبدء الحساب فيتقبل الله شفاعته، فيبدأ الحساب وفصل القضاء بين العباد كلهم من لدن آدم إلى قيام الساعة، وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الوارد ذكره في قوله ﷻ: ﴿عسى أن يبعثك ربُّكَ مقاماً محموداً﴾، فيسجد تحت العرش ما شاء الله أن يسجد، فيفتح الله عليه من محامده ومن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد من قبله، ثم يُقال له: «يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع» قال ﷺ: «فأقول: أُمتي يا رب أُمتي يا رب أُمتي يا رب» فيُقال: أدْخِل من أُمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال ﷺ: «والذي نفسي بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحِمْيَر أو كما بين مكة وبُصرى».

لقد عظمت رحمته ﷺ حتى شملت الصغار، فقد ظهرت رحمته وعطفه وحنانه وشفقته ولطفه بهم من محبة وتقبيل وحمل لهم، وإجلاسهم في حِجْرِه وإركابهم على ظهره، وممازحتهم وسلامه عليهم إذا مرَّ بهم، وشملت رحمته الأرامل والأيتام والعبيد والمساكين، بل إن رحمته وصلت إلى الأموات حتى لو كانوا كفاراً؛ فأمر بدفن قتلى بدر من المشركين، ووقف عندما مرّت جنازة يهودي.

ورحمته ﷺ بأهل الذمة من غير المحاربين تتَّضح من قوله ﷺ: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».

وشملت رحمته ﷺ كلّ الخلق، فلم تقتصر على البشر فقط، بل تجاوزت ذلك إلى الحيوان والشجر والحجر.

أمّا رحمته بالحيوان؛ فقد نهى ﷺ عن ضربه ووسمه ولعنه، وأمر بالإحسان إليه؛ فقال ﷺ: «دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض».

وأما رحمته بالجماد، فقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خرجت مع رسول الله ﷺ إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي ﷺ راجعاً، وبدا له أحدٌ قال: “هذا جبل يحبنا ونحبه”، ثم أشار بيده إلى المدينة قال: “اللهم إني أحرّم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صَاِعنا ومُدِّنا”.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

في حديثنا عن الرحمة المهداة، عن نبي الرحمة ونبي الإنسانية ﷺ لا بد أن يكون لنا نصيب من ذلك، بأن نرحم بعضنا بعضا في جميع شؤوننا، يرحم كبيرنا صغيرنا، ونرحم الأطفال والنساء، ونرحم بعضنا في البيع والشراء، ونرحم بعضنا في الطرقات والازدحامات، ونرحم أعراضنا فلا نؤذي أحداً أبداً، لنكون بذلك مظاهر رحمة بأنفسنا وبالناس.

وكما قال ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن»، ونبينا ﷺ إمامنا وقدوتنا في ذلك، ونحن أحوج ما نكون إلى هذه الرحمة، كأفراد وأسر ومجتمعات، لأننا بها ننعم بالأمن والسلم، وبها يتوحد الصف وتجتمع الكلمة، فإذا تحلينا بذلك تحررنا من ظلمات أنفسنا وحررنا مقدساتنا، فلا خلاص لهذه الأمة إلا بتراحمها وتعاطفها لتكون كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص كما يحبها الله ﷻ، ويحبها نبيه ﷺ.

والحمد لله رب العالمين..

بعد أن قرأتم ما لدينا اليوم في خطبة “الرحمة المهداة”؛ والتي أدرجناها تحت وصف: خطب تقشعر لها الأبدان. ما رأيكم ببعض الخُطَب الأُخرى؟! وهي مُميَّزة أيضًا:

أضف تعليق

error: