خطب تريح القلب.. بعنوان: الإخلاص في القول والعمل

تمت الكتابة بواسطة:

خطب تريح القلب.. بعنوان: الإخلاص في القول والعمل

بإدراجها تحت وصف: خطب تريح القلب. سنبدأ خطبة اليوم، وهي بعنوان: الإخلاص في القول والعمل. والتي نتحدَّث من خلالها عن هذا الموضوع بشكل أكثر عُمقًا. نتمنَّى أن تنال الخطبة، ومحتواها، إعجابكم أيها الخطباء.

عناصر الخطبة

  • الإخلاص ترك الرياء وتنقية القلب من التوجه لغير الله ﷻ عند أداء الطاعة.
  • الإخلاص من مقاصد الشريعة الإسلامية في القول والعمل.
  • الآثار المترتبة على الالتزام بصفة الإخلاص في الدين والمجتمع الإسلامي.

الخطبة الأولى

الحمد لله..

خلق الله ﷻ الإنسان في هذه الحياة لغاية عظيمة وهدف نبيل؛ هو عبادته ﷻ، قال الله ﷻ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، تلك الرتبة الشريفة والوظيفة المنيفة التي لا يعيش العبد جمالها، ولا يتفيؤ ظلالها إلّا إذا تجلت أنوارها على روحه وقلبه، وهذا لا يكون إلّا بالتحقق بمعاني الإخلاص ليكون له الخلاص في الدنيا والآخرة: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً﴾.

عباد الله: الإخلاص هو روح الطاعات، وجوهر العبادات، هو بمنزلة الأساس للبنيان، وبمنزلة الروح للجسد، وهو حقيقة الدين، ولعظيم منزلة الإخلاص وقدره عند الله ﷻ، أنزل ﷻ سورة كاملة تؤصل هذه القيمة في نفوس المؤمنين، هي سورة (الإخلاص) تجلت فيها معاني التوحيد لله ﷻ، وإخلاصه بالعبادة، لذلك قال عنها النبي ﷺ أنها تعدل ثلث القرآن، والإخلاص في القول والعمل هو مفتاح دعوة المرسلين، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي﴾.

كما أمر الله بالإخلاص في الطاعاتِ والفرائض، وفي كلِّ ما يأتي المسلم ويذَر مما أمر الله به أو نهى عنه، قال ﷻ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾.

جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله، وأحبّ أن يرى موطني، ويُرى مكاني، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، فالإخلاص هو الذي يزكِّي الأعمال ويطهِّرها وينمِّيها، فيبارك الله فيها وينفَع بها، ويجزِل الله به الثوابَ، قال الله تعـالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، فالعبرة بالأحسن لا بالأكثر، ولا يكون العمَلُ أحسنَ حتى يكون خالصًا لله ﷻّ، موافقاً لشريعةِ الإسلام، فإذا انتقص شيء من ذلك انتقص حسنه.

فإخلاصُ العبد هو سرّ النفع الأخرويّ في العبادات والطاعات، وهو سبب الابتعاد عن كل ما ينافيه من الرياء والسمعة والعجب والتكبر والغرور والإدلال بالعمل؛ ولهذا كانت الحاجة إلى معرفة هذا الأصل العظيم والتفكر فيه من أجَلِّ المطالب، وأعلى المقاصد.

والإخلاص “ترك الرياء في الطاعة”، وتنقية القلب من النظر لغير الرب في كل ساعة.

قال العزّ بن عبد السلام: “الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي”، وقيل: الإخلاص: أن يكون سكون العبد وحركاته لله ﷻ، وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط.

قال الشاعر:

إذا السر والإعلان في المؤمن استوى
فقد عز في الدارين واستوجب الثنا

فإن خالف الإعلان سراً فما له
على سعيه فضل سوى الكد والعنا

لذا كان من سَنن الصالحين ودأبهم الحرص على إخفاء عباداتهم، وعدم إظهارها، ومن جميل ما يروى في ذلك، قال محمد بن أعين صاحب عبد الله بن المُبارك: “كنَّا ذات ليلة في غزوة الروم، فذهب ابن المبارك ووضع رأسه ليريني أنه نام، فقلت: أنا برمحي في يدي فقبضت عليه، ووضعت رأسي على الرمح كأني نمت، فظنَّ ابن المبارك أني نمت؛ فقام يصلي حتى طلع الفجر فأيقظني، يظن أني نائم فقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني، ولا ينبسط إلي في شيء طوال الغزوة؛ كأنه لم يعجبه ذلك مني حين فطنت عليه في ذلك العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، وما رأيت رجلاً أسرَّ بالخير منه”.

عباد الله: ما أحوجنا إلى إصلاح نيتنا، ومعالجة قصدنا، وتصحيح إرادتنا في جميع أعمالنا؛ في صلاتنا وصيامنا وحجنا وجميع طاعاتنا بأن لا نبتغي بشيء من ذلك إلا وجه الله، لأنه لا يكون شيء من ذلك مقبولاً مرضياً مشكوراً عند الله ﷻ إلا إذا كان لله خالصاً، وما من شك أن إخلاص العمل، وتصفيته من الرياء يحتاج من الإنسان إلى جهد ويقظة ومتابعة، بل كان من دعائه ﷺ: «يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك».

عباد الله: الإخلاص شجرةٌ حلوةٌ نضرة وافرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي سرّ بين العبد وربه يتذوق الإنسان ثمارها في الدنيا قبل الآخرة؛ وينعكس أثرها على حياة الناس ومعاشهم، ففي الدنيا يظهر أثر الإخلاص في القول والعمل على سلوك المسلم فمن جعل عمله خالصاً لوجه الله ﷻ، فإنه سيخلص لله ﷻ في جميع أعماله وتعاملاته مع الآخرين، فلن يغشّ الناس أو يظلمهم أو يعتدي عليهم، وسيكون مخلصاً لوطنه والأرض التي تربى عليها ونهل من خيراتها، فالعمل عبادة وحب الأوطان جزء من العقيدة، وأما في الآخرة فللإخلاص أنوار سارية، وإمدادات جارية وعلى رأسها حصول شفاعة الشفيع، فأحقّ النّاسِ بشفاعةِ النبيّ ﷺ يومَ القيامة من كان أخلصَهم لله، قال ﷺ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ».

والإخلاص يُقرُب العبد من ربّه ويجعله تحتَ ظلّ عرشه، يوم لا ظل إلا ظله قال ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ … وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ».

والإخلاص مانعٌ من تسلّط الشيطان على العبد، قال ﷻ عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

وبالإخلاص يتحصل العبد على حفظ الله ورعايته وينجو من الفتن والشدائد: قال الله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾.

بالإخلاص يبلغ الصادقون في نياتهم منازل العاملين، ولو لم يوفّقوا إلى العمل، ففي غزوةِ تبوك جاء الفقراء إلى رسول الله ﷺ يستأذنونه في الخروج معه للجهاد، فردهم لعدم وجود ما يحملهم عليه، فعادوا وأعينهم تفيض من الدمع حزَنا على تخلّفهم عن الجهاد، فنزل فيهم قوله ﷻ: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾.

ومن علامات المخلصين أنهم لا يرغبون في مدحهم ولو عملوا، بعكس غيرهم ممن يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. فالمخلصون يخشون الله بالغيب ويراقبونه في حال السرِّ، كما يخشونه في الشهادة، ويراقبونه في حال العلانية، شأن المخلصين وهدفهم رضا الله.

ولكن عندما يغيب الإخلاص عن جوهر الأعمال والأقوال يتسبب في بطلانها ويؤدي إلى دخول النار، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ؛ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ».

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. فيا فوز المستغفرين.

لدينا أيضًا خطبة تريح النفس.. بعنوان: الحياء لا يأتي إلا بخير

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

عباد الله: لا أنفعَ للقلب من تجريدِ الإخلاص، ولا أضرَّ عليه من عدمِه، وكلّما قوِي إخلاصُ الدّين لله كمُلت العبوديّة، ومن عرف الناسَ أنزلهم منازلهم، ومن عرَف الله أخلَص له أعماله، وكلّما صحّتِ العزيمة وعظمتِ الهمّة طلب الإنسان معاليَ الأمور، ولم يلتفِت إلى غير الله، ولم ينظُر إلى ما سواه، وليسَ من الرّشَد طلب الآخرة بالرياء، قال بعض السلف: “عامل الحق ﷻ كما انه لا يوجد خلق، وعامل الخلق بلا نفس” وإيّاك أن تطلب بعملك محمدةَ الناس أو الطّمع بما في أيديهم.

والحمد لله رب العالمين.

وبعد أن قدَّمنا لكم أعلاه خطب تريح القلب.. تحت عنوان: الإخلاص في القول والعمل. هذه أيضًا ضِمن وصف خطب تمس الواقع.. خطبة الجمعة بعنوان: خيركم خيركم لأهله. نسأل الله ﷻ أن تنال كل محتوياتنا إعجابكم.


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: