مقدمة الخطبة
الحمد لله الغنيِّ الحميد، الكريمِ المجيد، ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾، رفع قدر الآخرة وجعلها دار الخلود، وحذّر من فتنة الدنيا فهي دار الغرور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُنجي من العذاب، وتورث الثواب، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، زهد في الدنيا وما فيها، ودلّ الأمة على الزاد ليوم تلاقيها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد، فأوصيكم –عباد الله– ونفسي الخاطئة المقصّرة بتقوى الله، فهي النجاة في الدنيا، والفوز في الآخرة، وعدة العبد في الشدة، وعصمته في الفتنة.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: إن من المهلكات للإنسان التي تصرفه عن طريق النجاة في الدنيا والآخرة شدة الحرص على الدنيا والتعلق بالجاه والمال، بحيث يقدم ما يحقق هواه على أمر الله ﷻ، ومن كان هذا حاله فقد تعرض لخطر عظيم، ووعيد من الله شديد، يقول الله ﷻ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].
ولذلك يقول الله ﷻ مزهداً عباده في الدنيا ومذكراً لهم بذهابها وفنائها: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» رواه الترمذي.
ثم إن الدنيا عبارة عن كل ما على وجه الأرض من المشتهيات واللذات، وأصناف الأمتعة التي تشتهيها النفوس وتميل إليها، وتحرص عليها، وقد جمع الله أصول ذلك كله في قوله ﷻ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] فمن غلبه حب الدنيا حتى لم يبال من أين أخذ الدنيا من حلال أم من حرام، وحتى اشتغل بسبب حرصه على الدنيا وسعيه لها عما فرض الله ﷻ عليه من طاعته، ووقع بسببه فيما حرم الله عليه من معصيته، فقد تحقق في حقه الوعيد الوارد في المحبين للدنيا، والمريدين لها، وصار أمره في نهاية الخطر إلا أن يتداركه الله بتوبة قبل مماته، وقبل خروجه من هذه الدار.
وأما التعلق بالجاه والمال وكثرة الحرص عليهما وطلبهما بكل وجه سواء كان حلالا أم حراماً فقد عرض نفسه لخطر شديد وذنب عظيم يقول الله ﷻ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» رواه الترمذي، ومعنى ذلك أن حب المال والجاه يفسدان دين صاحبهما أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان إذا أرسلا في الغنم.
فمن اشتد حرصه على الجاه والمال وطلب المنزلة والتعظيم في قلوب الناس فقد تعرض بذلك لآفات كثيرة، كالكبر والرياء والتزين والتصنع وترك التواضع للحق وأهله إلى غير ذلك من المعاصي، قال رسول الله ﷺ: “إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا، ولم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة” رواه ابن ماجه.
والمذموم من حبّ الجاه والمال شدة ذلك وإفراطه حتى يطلبه الإنسان بكل وجه يمكنه من جائز وغير جائز، فأما من طلب ذلك بنية صالحة للاستعانة به على الآخرة وصيانة الدين والنفس عن تعدي الظالمين وعن الحاجة إلى الناس، ولم يشتغل بسبب ذلك عن عبادة الله ﷻ ولم تفارقه التقوى والخوف من الله، فذلك طيب مبارك لا حرج فيه إن شاء الله ﷻ، يقول ﷺ في بيان التفريق بالنتائج بناء على اختلاف النوايا: “الدُّنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ اللهِ وما والاه، وعالِمًا أو متعلمًا” سنن الترمذي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، ونتوب إليه.
وهذه ⇐ خطبة: الحياة الطيبة سكينة في الدنيا وسعادة في الآخرة
الخطبة الثانية
الحمد لله الغني الحميد، الحكم العدل الرشيد، جعل الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ، وابتلى عباده فيها ليبلوهم أيّهم أحسن عملًا، نحمده سبحانه على ما أولى من النعم، ونشكره على ما صرف من النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد… فاتقوا الله عباد الله، واحذروا فتنة الدنيا فإنها خادعة، وزينتها زائلة، ومكاسبها متاع غرور، لا يصفو فيها نعيم، ولا يسلم فيها مقيم.
ألا وإن حب الدنيا أصل كل خطيئة، ومنبع كل غفلة، إذا تمكَّن من القلب أفسده، وإذا عمر فيه أخرجه من دار القرب إلى وهدة الحرص والطمع والشقاء، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ…﴾ ثم قال بعدها: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.
فيا من ألهته الدنيا بزخرفها، وغرَّته بزيفها، تذكّر أن ما عند الله خير وأبقى، وأن المال لا يغني عنك شيئًا إذا جاءك الأجل، فاعتبر بمن رحل، ولا تغترّ بمن جمع، فإنما هي أيام قلائل، ثم ينقطع الأثر، ويبقى العمل.
نسأل الله ﷻ أن يجعلنا من الزاهدين في الفاني، الراغبين في الباقي، العاملين لما بعد الممات، المتزودين بالتقوى والطاعات، وأن يطهر قلوبنا من الطمع، ويغنينا بحلاله عن الحرام، وبفضله عمّن سواه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقِم الصلاة..