خطبة عن النفس المطمئنة – مكتوبة

خطبة عن النفس المطمئنة – مكتوبة

عناصر الخطبة

  • النفس المطمئنة أسمى درجات النفس، ولذلك نالت شرف النداء الرباني(يا أيتها النفس المطمئنة)، وهي ثمرة المجاهدة في طاعة الله ﷻ (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
  • النفس الأمارة طبعها قائم بطلب ما يوافقها من الدنيا، و المؤمن الكيِّسُ لا يغفل عن تهذيبها طرفة عين، فيرتقي أعلى الدرجات في الجنات، وأما من اتبع هواها فإنها تهوي به في دركات جهنم، والعياذ بالله ﷻ.
  • حقٌّ على العاقل أن لا يحسن الظن بالنفس الأمارة فينقاد لها، فإنها تورده المهالك في الدنيا والآخرة.
  • تزكية النفوس ثمرتها الفلاح والفوز والنجاح، وهو ما فعله الصحابة رضي الله عنهم فأضحوا الجيل المثالي لأن نفوسهم تزكت فاطمأنت قلوبهم، واستقامت جوارحهم.
  • المواظبة على ذكر الله ﷻ في كل حال، مع الإخلاص في النية والقول والعمل يحفظ العبد من شهوات النفس الأمارة، ويجعله ربانياً ظاهراً وباطناً، فيصبح المجتمع مجتمعاً مباركاً.
  • المؤمن الذي يجعل دعاء يونس عليه السلام (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) يحفظه الله ﷻ من وساوس النفس والهوى والشيطان؛ لما يتضمنه من تسبيح الله ﷻ واتهام النفس الأمارة.

الخطبة الأولى

خلق الله ﷻ الإنسان في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه وهيأ له أسباب الحياة، ليقوم بمهمة عظيمة هي عبادة الله ﷻ وعمارة الأرض وإصلاحها، وقد جعل الله ﷻ النفس البشرية قوام الإنسان والمحرك له، قال ﷻ: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) الانفطار: 7–8.

ونفس الإنسان هي التي ترتقي به في معارج السالكين إلى رضى الله ﷻ وشكره ومحبته، أو تهوي به في شَرك الشيطان وكيده، لذلك شرع لنا الله ﷻ ما يصلح هذه النفس ويرتقي بها من دركات الشرّ إلى درجات البر والخير لتصل بصاحبها إلى برّ الأمان، وإلى جنان الرحمن، ولا تهوي به إلى قاع الجحيم ودرك النيران، يقول ﷻ: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) الشمس: 7–10.

فبيّن الله ﷻ أن أبعد درجات النفس عن التقوى والصلاح هي النفس الأمارة بالسوء، التي توجه صاحبها لقبائح الأفعال، وكبائر الذنوب، وتزين له الباطل دون تقوى لله أو خوف من عقابه، يقول الله ﷻ في قصة يوسف عليه السلام: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يوسف: 53.

وكذلك كل من سوّلت له نفسه فساداً وإفساداً، وانصياعاً لشهوات نفسه الأمارة، واتباعاً لهواهاً، ولا يراعي في مؤمن إلّا ولا ذمة، فتراه يعتدي على أموال الناس، ويتطاول على أعراضهم اتباعاً لشهواته، ويقذف غيره بالباطل تشويهاً لسمعته، ويعتدي على دمائهم بغير وجه حق، وصاحب هذه النفس مصيره على خطر عظيم، إن لم يتب ويرجع إلى الله ﷻ.

ومن الخير للمؤمن أن يكثر من دعاء يونس عليه السلام لما فيه من تنزيه الله ﷻ (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فإن المواظبة على هذا الدعاء يهذب النفس الأمارة.

والدرجة الأخرى من درجات النفس، هي النفس اللوامة، التي أقسم الله ﷻ بها في قوله سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة1–2، وهذه النفس هي التي تراجع صاحبها وتعاتبه إن وقع في الأخطاء والزلات، ولا يزال صاحبها بين توبة وذنب، وابتعاد عن الحق ثم رجوع ودنو، حتى يلاقي ربه ﷻ، وقد قال النبي ﷺ: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» ← سنن الترمذي.

فهذه النفس هي وقاية لصاحبها من الذنوب والمعاصي ومن ارتكاب ما يخلّ بأمن المجتمع لأنه يشغلها بالحق، قبل أن تشغله بالباطل، ويشغلها بالطاعة، حتى لا تشغله بالمعصية، لذلك يقول الحسن البصري رحمه الله : إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا على الفعل : لِمَ فعلت هذا، وما أَردت بهذا ؟ ونحو ذلك”، وأما الفاجر لا يحاسب نفسه.

والدرجة الثالثة من درجات كمال النفس، هو أن يصل المؤمن إلى درجة النفس المطمئنة التي تحث صاحبها على العبادات والطاعات، وتراقب الله ﷻ في كل حركاتها وسكناتها، ويصل إلى درجة الإحسان يعبد الله كأنه يراه، فاطمأنت نفسه إلى الله ﷻ فسلمه أمره واتكل عليه، فتحث صاحبها على الأعمال الصالحة وتنهاه عن الأفعال الفاسدة، ويصبح صاحبها من الصالحين المصلحين في المجتمع لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا تضيعه مغريات الحياة وشهواتها.

وقد أرشدنا الله ﷻ إلى طريق الوصول إلى النفس المطمئنة، وهي تزكية النفس والمداومة على محاسبتها، حتى تصل إلى أعلا درجات الكمال، يقول ﷻ: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)، ويقول ميمون بن مهران: “لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسَه محاسَبَةَ الشريك الشحيح“.

يقول الإمام البوصيري:

والنَفسُ كَالطفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَ عَلَى
حُبِ الرضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ

وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهِم

ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً
فأنت تعرف كيد الخصم والحكم

ومن سبل الوصول إلى النفس المطمئنة المداومة على ذكر الله ﷻ قال ﷻ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28، والمقصود أن يبقى ذكر الله ﷻ حاضراً في قلب المؤمن ونفسه، مردداً له بلسانه، حتى تظهر ثمرته على جوارحه وأفعاله، فلا يقول إلا خيراً ولا يفعل إلا خيراً، فيعيش حياته بسكينه دائمة، يعلم أن له ربّا يرزقه ويعينه وينصره، فلا يدخل الشك والريبة، أو القلق والقنوط إلى نفسه، وقيل مطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع.

ولا بد أن ترافق هذه الأعمال إخلاص لله ﷻ، حتى يتحصل المؤمن على ثمرتها، وهو كما قال العز بن عبد السلام –رحمه الله–: “أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي“.

⬛️ وهنا: وعن عمره فيما أفناه.. خطبة تحبس الأنفاس

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.

عباد الله: إن ثمرة الاجتهاد والطاعة وتزكية النفس لوصولها إلى درجة الاطمئنان ثمرة عظيمة جليلة، تكون في تعظيم حبّ الله ﷻ في النفوس، حتى يذوق المؤمن بذلك حلاوة الإيمان، ويستعذب بها العبادات والطاعات، ويكون من أولياء الله الصالحين، الذين يبنون ولا يهدمون، ويصلحون ولا يفسدون، ويجمعون ولا يفرقون، ويبشرون ولا ينفرون، يقول الله ﷻ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) البقرة: 165.

ويقول النبي ﷺ: «ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار» ← متفق عليه.

وعند قبض الروح يرى صاحب النفس المطمئنة جزاء عمله الحسن، أمناً وسكينة، فيرحل من الدنيا وقد عمّرها بصالح الأعمال، ونال مغفرة ورضى الرحمن، يقول الله ﷻ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) فصلت: 30–31، وفي هذا الموقف العظيم، تأتي البشارة من الله ﷻ لهذه الروح المؤمنة الطاهرة، بالوعد الحسن، والمآل الطيب، والرضى الدائم، يقول ﷻ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر: 27–30.

والحمد لله ربّ العالمين..

أضف تعليق

error: