خطبة عن التقوى مكتوبة «منسقة ومُعنصرة» وتحاكي جوانب عِدَّة

حيْن ينشد إمام مسجد إيقاظ الهِمَّة من جديد، فإن إلقاءه خطبة عن التقوى على المصلين -ولو من حين لآخر-؛ يُلقي خُطب الجمعة بمواضيع عِدَّة، ثم يتخللها خطبة عن تقوى الله ‹عز وجل› يستنهِض بها الهِمم الخاملة.

وها نحن نزوِّدكُم بأحد الخطب المؤثرة والقوية والتي تسير في سياق غير اعتيادي لطرح والحديث عن موضوع التقوى؛ فما رأيك أن تترك المقدمة وتتمعَّن في المحتوى؟

مقدمة الخطبة

الحمد لله، أحمده سبحانه وأستعينه وأستهديه وأستغفره؛ يا ربِّ أنا نتوب إليك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. عِباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم، فقد أمرنا الله ‹سبحانه وتعالى› بها في كتابه في آيات كثيرة؛ فقال سبحانه «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»؛ «يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور».

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الهادي الأمين والبشير النذير؛ صلوا عليه كما صلى عليه ربكم «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما».

الخطبة الأولى

أحباب رسول الله ‹صلى الله عليه وسلم› صلوا على رسول الله. نحن في يوم الجمعة وقد أمرنا الرسول ‹صلى الله عليه وسلم› أن نكثر من الصلاة والسلام عليه فيه.

فاللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين نلقى الله ‹سبحانه وتعالى› بشفاعتها حتى يدخلنا بها الجنة.

إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد ‹صلى الله عليه وسلم›.

عباد الله، ما تصوركم عن التقوى؟ ما مفهومكم عن تقوى الله؟ كيف تتفاعل عقولكم وقلوبكم مع كلمة التقوى؟

أدعوكم اليوم لنلقي نظرة عن كثْب على مفهوم أوسع وأشمل وأكثر احتواءً وتشعبًا لمرادف هذه الكلمة التي لابد أن تنبِض بها قلوبنا كمؤمنين موحدين.

إنها الورع، التبتل، التعبد، الطاعة، مخافة الله، الإخلاص، التُقى، الولاء.. جميعها مرادفات تحتاج لقلوب تتفهمها وتعي معناها.

يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم وهو أصدق القائلين «وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا»؛ «وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا | اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسول».

وقال سبحانه «الرحمن | علم القرآن | خلق الإنسان | علمه البيان | الشمس والقمر بحسبان»؛ وقال سبحانه «هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون».

ويقول المصطفى ‹صلى الله عليه وسلم› «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ».

عباد الله، ما مقدار التقوى في قلوبكم؟ مرت سنوات من عمرنا، فهل وقف أحدنا وقفة تأمل وتدبر في السنوات التي مرت من عمره؟ هل حاسب نفسه إن كان مقصرا؟ وتدارك بالتوبة والاستغفار أم أنه كان محسنا فيزداد في الإحسان.

فعمرنا يمر وأيامنا تتوالى وسنين تمضي من حياتنا، هذه الأيام وهذه السنين تمر علينا كلمح البصر.

إن إلى ربك الرجعى

يجلس الفرد منا متأملا؛ مرت سنة.. سبحان الله، والله سبحانه هو ‹تعالى› بيَّن أن لنا أجلا محددا «وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون».

فمن كان عمره منا في الستين أو في الخمسين أو في الثلاثين أو في العشرين فليعلم بأنه يسير إلى الله من يوم أن ولد إلى هذا العمر.

أي من صار عمره في الثلاثين فهو يسير إلى الله من ثلاثين سنة يوشك أن يدرك الوعد واليوم الذي قدره الله فيه أن يعود إليه «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون».

وبأدنى نظر في هذه الآية نعلم بأنه كان لنا موقف مع الله في الأزل ولنا عود إلى الله ‹سبحانه وتعالى› بعد انتهاء الأجل «ثم إلى ربكم ترجعون» فنحن كنا مع الله، فهل كان لنا من وقفة مع الله ‹سبحانه وتعالى› في الأزل حتى يكون لنا رجوع.

نعم؛ «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين».

كان لكل بني آدم وقفة مع الله وجلسة، فالله ‹سبحانه وتعالى› أخذ الإقرار عليهم بأنه لا إله إلا هو، ثم إلى ربكم ترجعون.

تعودون مرة ثانية، لأنه لا يمكن أن يكون هناك رجوع إلا إذا كان هناك لقاء من قبل.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم يا رب كما أحسنت بدايتنا بالشهادة لك بالوحدانية والربوبية أن نعود إليك ونحن عليها؛ وأن تزداد قلوبنا من التقوى والإيمان الخالِص.

يا رب العالمين لا تخرجنا من هذه الدنيا إلا على لا اله الا الله محمد رسول الله.

أيها المؤمنون، الأحبة علينا أن نتذاكر وأن نتدبر هذا العمر، فلا ندع العمر يمر بنا ونحن في غفلة، أي كلما مر يوم لا يعود مرة ثانية.

ما من يوم يصبح فيه العبد إلا وينادي منادي أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة. فكل فرد منا يسأل أخاه في نهاية السنة أين ستكون سهرتك إن شاء الله؟ ماذا ستفعل في نهاية السنة؟

صلاة الجمعة تجمعنا على طاعة الله

وفي الحديث عن التقوى نسأل؛ كم من أناس حرموا من أداء صلاة الجمعة؟ نسأل الله ‹سبحانه وتعالى› أن يهيئ لهذه الأمة من يقدس لها فرائض الله، وأن يقدس لها حرمات الله.

نسأل الله ‹سبحانه وتعالى› أن يهيئ لهذه الأمة من يحترم شعائر الله، وان يجعلها فوق كل اعتبار.

فهذا الدعاء أرجو الله ‹سبحانه وتعالى› أن ينفع به من كان مسئولا وينفع به من كان صاحب عمل. أن يدع الفرصة للناس. أن يأتوا ليصلوا صلاة الجمعة.. اتقوا الله.

فهذه الصلاة تجمع الناس على طاعة الله وعلى عبادته. وليعلم الإنسان الذي هو صاحب مسئولية عن ذلك بأن له وقفة بين يدي الله ‹سبحانه وتعالى› يسأله لماذا منعت عبادي من أداء صلاتي؟

اغتنم شبابك قبل هرمك

عباد الله، من التقوى أن نعلم بأن هذا العمر سريع والزمن يتقارب، فإذا اقتربت الساعة فإن الزمن يزداد سرعة، لا تقوم الساعة حتى يأتي الزمان السنة كالشهر والشهر كاليوم واليوم كالساعة.

فيمر الزمن مسرعا؛ فلذلك أيها الإخوة علينا أن نستغل هذه الفترة التي نعيشها في هذه الحياة في طاعة الله ‹سبحانه وتعالى›، ولذلك حثنا النبي ‹صلى الله عليه وسلم› فقال: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك» فاستغل فترة شبابك في طاعة الله قبل أن تكبر و ينحني ظهرك ويزداد تعبك ولا تستطيع أن تقوم بالعبادة كما كنت شابا.

وليعلم الإنسان بأن النبي ‹صلى الله عليه وسلم› ذكر في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «شاب نشأ في عبادة الله».

اللهم أظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. فلا يقل الشاب دعنا نعيش حياتنا، دعونا نعيش شبابنا ونأخذ راحتنا وما يدريك أنك ستعيش حتى تكبر فالموت لا يفرق بين صغير ولا كبير، يأتي في لحظة.

فكل يوم نودع شبابا ونودع كبارا وصغارا وأجنة في بطون أمهاتهم.

فالموت أيها الأخ الكريم لا يفرق بين كبير وصغير، بين شاب وهرم، فاستغل هذه الفترة في طاعة الله واستعمالها في مرضاته ‹سبحانه وتعالى› فإن غاية المنى أن نصل إلى رضا الله ‹سبحانه وتعالى›.

فاللهم ارض عنا رضا لا سخط بعده أبدا يا رب العالمين.

اغتنم شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، فلديك صحة تستطيع بها أن تصلي سننا وفروض وتصوم بعض الأيام وتسعى إلى الخير وتساعد الناس، أي كن دائما من أهل الخير.

تقوى الله خير زاد

اجعل كل عملك لله ‹سبحانه وتعالى›؛ وأنت تسعى على رزقك فاقصد به وجه الله ‹سبحانه وتعالى› وأنت تعمل في عملك كموظف فاقصد بذلك وجه الله؛ لا تكن قاسيا على خلق الله، لا تكن منفرا للناس من عملك بل كن ودودا، وأدي عملك كما يحب الله ‹سبحانه وتعالى› ويرضى.

اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك.

فتصدق اليوم لأنك قد لا تستطيع أن تتصدق غدا، فأيكم يحب مال وارثه أكثر مما يحب مال نفسه، فمال وارثك ما تركته ومالك هو الذي إدخرته ليوم لقاء الله ‹سبحانه وتعالى›.

فتصدق وافعل الخير؛ الله ‹سبحانه وتعالى› أمرنا بفعل الخير، وغناك قبل فقرك.

فالنبي ‹صلى الله عليه وسلم› لم يترك لنا بابا من أبواب الخير إلا ودلنا عليه، فاستغل هذه الأعمار واستغل فراغك قبل شغلك.

ومن العجيب أنك أحيانا تسأل الفرد فيقول لك: أنا عاطل عن العمل، لا يوجد من يسمى بالعاطل،  فالإنسان دائما في شغل، إذا كنت لا تشتغل للدنيا فاشتغل للآخرة.

لن تموت حتى تأخذ رزقك من الدنيا

إذا لم يكن لديك عمل تسعى فيه على رزقك فاستغل ذلك الوقت في ملء ميزان حسناتك الذي تلقى الله ‹سبحانه وتعالى› به، وكن على يقين أنك لن تموت حتى تأخذ رزقك من هذه الدنيا.

لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها؛ هكذا قال النبي ‹صلى الله عليه وسلم›؛ وعليه يسير المتقون.

والله ‹سبحانه وتعالى› تكفل بالرزق لعباده حينما خلقنا قدر لنا أقواتنا بل قبل أن يخلقنا الله ‹سبحانه وتعالى› هو الذي خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، فالأقوات موجودة والأرزاق موجودة.

ما أوجد الله من بشر إلا ورزقه موجود معه، ولكن على كل مسؤول أن يسعى لإن يحقق للناس ما قدره الله ‹سبحانه وتعالى› له في هذه الأرض.

علينا أن نسعى ونجد، وأن يقوم كل واحد منا بالعمل الذي استعمله الله ‹سبحانه وتعالى› عليه حتى يعيش الناس في رخاء.

وقد ضرب لنا المثل القيم في ذلك الخليفة الراشد سيدنا عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في سنتين وشهرين أو ثلاث اشهر امتلأت خزائن الأرض بالمال، وعاش الناس عيشة رفاهية ليس بعدها عيشة لأنه أقام العدل، وقام كل واحد من رعيته بدوره؛ فعاشوا في عيشة رغيدة.

الله ‹سبحانه وتعالى› قدر لنا الأقوات والأرزاق، فلا تهاب أحدا إلا الله وتوكل على الله ‹سبحانه وتعالى› حق التوكل.

كما قال النبي ‹صلى الله عليه وسلم› «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا».

فهل رأيت طيرا لديه رصيد في البنك، أو طيرا لديه فلة في مكان فلاني، أو لديه خزنة. ولكنه توكل على الله حق توكله فيغدو خماصا ويعود بطانا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله العلي العليم، القائِل في محكم التنزيل «وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون».

عباد الله؛ لا تدعوا العمر يمر بنا في غفلة وتنشغلوا بالدنيا عن الآخرة؛ بل علينا أن نغتنم الدنيا لنسعد في الآخرة. والله ‹سبحانه وتعالى› لم يذكر الدنيا في القرآن إلا بلفظ الدنيا؛ أي الدنية أما الآخرة فهي الدار الباقية «وإن الدار الآخرة لهي الحيوان» أي الحياة الباقية.

فهل يعيش الإنسان فترة من الزمن في معصية الله ليشقى أبدا أم يتعب في هذه الدنيا في مرضات الله وليتذوق طاعة الله حتى يسعد في دار الخلود إلى أن يشاء الله. «وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض».

الدعاء

  • نسأل الله ‹سبحانه وتعالى› في هذا اليوم المبارك يوم الجمعة أن يجمعنا وإياكم تحت لواء سيدنا محمد. اللهم اجمعنا تحت لواء سيدنا محمد في الجنة.
  • اللهم اجعلنا من عبادك وأوليائك المتقين المحسنين، المؤمنين المخبتين.
  • اللهم يا ربنا ليس لنا من عمل يستحق العرض عليك فعاملنا بلطفك وعاملنا بفضلك وعاملنا بكرمك يا أرحم الراحمين.

فاتقوا الله عباد الله، والزموا طريق التقوى يُنجيكم الله من كل كرب وضيق؛ وأعِدوا خير الزاد ليوم المعاد.

وأقِم الصلاة.


تفاصيل الخطبة

  • العنوان: خطبة عن التقوى.
  • ألقاها: الشيخ الدكتور محمد البيلي.
  • فحواها: خطبة جمعة مؤثرة بعنوان: تقوى الله عز وجل. اشتملت على الكثير من العِظات والدروس والتوصيات والعبر.

كلمة المُحرِّر

أمعن الكثير من الخطاء والأئِمة والوُعَّاظ في هذا الموضوع، وقدَّم منهم خطبة عن التقوى قصيرة وقوية، أو طويلة وبليغة، أو مختصرة وجامعة؛ فهُم من كبار العلماء وحدِّث ولا حرَج.

وأذكر من هؤلاء الأجلاء، الشيخ محمد حسان والشيخ محمد العريفي والشيخ محمود الحسنات؛ وآخرون كُثر.

ونشرت العديد من منصَّات الخير هذه الخُطَب، مثل ملتقى الخطباء، شبكة الألوكة، صيد الفوائد، المنبر.

وما نفعله الآن هو إضافة إلى هذه المكاتب العظيمة، وإثراء أكثر للمحتوى الذي ينشده طبقة كبيرة مِنا، وهم هؤلاء الدعاة والأئمة والخطباء.

أضف تعليق

error: