وقفات مع خطبة الوداع لرسول الله يوم عرفة.. خطبة رائعة ومؤثرة

سويًّا نلتقي مجددًا مع خطبة رائعة ومؤثرة؛ بعنوان: وقفات مع خطبة الوداع لرسول الله ﷺ يوم عرفة. نسأل الله الحليم ﷻ أن تنتفعوا بها جميعًا وأن تنفعوا بها المصلّون الذين يحضرون خطب الجمعة في الجوامع التي تتولَّون إلقاء الخطبة فيها.

الخطبة الأولى

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد؛ فحين هاجر النبي ﷺ مكث تسع سنين لم يحج، فلما كانت السنةُ العاشرة أعلم الناس بحجهِ فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ﷺ، ويعمل مثل عمله. فخرج الصحابة معه حتى أتوا ذا الحُليفة فلبى ولبوا معه من هناك.

قال جابر -رضي الله عنه- وأهلّ رسول الله ﷺ بالتوحيد؛

لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

خطبة الوداع

فابتدأ ﷺ حجته الكريمة بهذا الأصل العظيم، أصل التوحيد الذي نزلت لأجله الكتب، وأرسلت لأجلهِ الرسل.

وأعاد ﷺ هذا التذكير في مواضع من حجته تلك، منها حين صلى خلف المقام ركعتين، فقرأ بسورتي التوحيد وهما؛ سورة الكافرون وسورة الإخلاص.

وحين صعد الصفا ﷺ ورأى البيت ذكر الناس بمقاله وحاله بهذا الأصل العظيم، فاستقبل القبلة وهو على الصفا فوحد الله -عز وجل- وكبره وقال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».

وهو هنا ﷺ حين يقول أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده كأني به صلوات الله وسلامه عليه.

يتذكر حين وقف على الصفا قبل نحو من عشرين عامًا حين كان في أول بعثته داعيا أقاربه، مناديا فيهم بطنا بطنا، رجلا وامرأة «يا معشر قريش، يا عباس، يا صفية، يا فاطمة، يا فاطمة لا أغني عنكم من الله شيئا».

فيسمع تلك الإجابة المخزية من أقرب الناس إليه. ويقول له أبي لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فلا تمضي سوى عشرين سنة تقريبا إلا ويأتي -صلوات الله وسلامه عليه- حاجا مظفرا معززًا مكرمًا وهو كذلك أينما كان.

لا يوجد في الحرم ولا في المسجد أي مظهر من مظاهر الشرك يأتيها -صلوات الله وسلامه عليه- ومعه الأحمر والأسود ومعه الأسياد والعبيد، يدخلها معززا مؤزرا. وفي ذاكرته ﷺ جملة من الغزوات التي خذل الله فيها أعدائه ونصر فيها عبده وأولياءه، فردد تلك الجملة العظيمة «أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده».

وهكذا العبد يشكر ربه -عز وجل- في كل مقام وخصوصا في مثل هذه المقامات على نعم الخاصة به وعلى نعم الله تعالى العامة.

النبي ﷺ أكرم الخلق

ثم يقدم على -رضي الله عنه- من اليمن ببُدن النبي ﷺ فكان مجموع الهدي الذي قدم به علي والذي قدم به النبي ﷺ كان مئة ناقة، وفي هذا من جوده وكرمه ﷺ ما فيه، فإنه كان يُجزئه عن كل سبعة من أهل بيته ناقة واحدة، لكنه الجود المحمدي، لكنه البذل النبوي، لكنه إظهار الشرائع.

فلما كان يوم النحر ذبح النبي عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة ثلاثا وستين ناقة كلهن يتبادلن أيتهن يذبحها أولا، ثم يذبح الباقي علي -رضي الله عنه-، فكأنه ﷺ حين ذبح ثلاثا وستين توقف العد عند عدد سنوات حياته المباركة ﷺ.

خطبة النبي يوم عرفة وعظمتها

فلما كان يوم عرفة أتى بطن الوادي “وادي نمرة” فخطب الناس تلك الخطبة العظيمة، وقال فيها «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هُذيل».

فانظروا يا عباد الله، انظروا كيف عظّم النبي ﷺ شأن الدماء، وكيف بدأ بهدم أصول ومبادئ الجاهلية في هذا المقام العظيم؟ فأين من يدّعون؟ أين من يدّعون اليوم أنهم مسلمون؟ وأنهم مجاهدون ولدولة الإسلام بزعمهم يقيمون، وهم من أعظم الناس خوضًا في الدماء وولوغا فيها؛ يقتلون بالشبهة ويمثلون ويصلبون على أمور لا تستحق ذلك قطعا.

بل يتجرأون ويصورون تلك المشاهد ويبثونها على شبكة الإنترنت فشوهوا بذلك سمعة الإسلام النقي الذي جاء به محمد ﷺ، شوهوه بسوء فعالهم، وقبيح تصرفاتهم.

ثم قال ﷺ « وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».

الله أكبر، هكذا هم القدوات العظام في أمر الدماء أول ما وضع دم ربيعة بن الحارث.

ولما جاء أمر الربا، وضع أول ربا موجود في أقاربه، هكذا هم الكبار المؤثرون، يكونون محل قدوة للناس، فيسقطون أمثال هذه الأحكام الظالمة الجائرة.

أيها الإخوة لا ريب أن النبي ﷺ حينما ذكر الربا في هذا الموقف فهو إشارة إلى تفشيه فيهم.

كما أنه أيضا دال على شناعة الربا ومقت فاعليه حيث نبه إلى خطورته في هذا المجمع العظيم، فهل يستشعر هذا المعنى من يأكلونه ولا يبالون؟ أو يتحايلون على أكله بأنواع من المعاملات ظنا منهم أن هذا التحايل يُنجيه من حرب الله ورسوله.

يا معشر المسلمين اتقوا الله في النساء

أيها الإخوة ثم ينتقل النبي ﷺ في خطبته تلك إلى قضية عظيمة، طالمًا رددها المرددون، وتأَكل بها المتأكلون، فقال «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهم ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف». هذا أول إعلان عالمي لحقوق المرأة ولحقوق الرجل.

المرأة التي كانت تُظلم في الجاهلية الأولى، المرأة التي لم يسمع التاريخ قبل موقفه ﷺ كموقفه ذاك يُعلن حقوقها كهذا الإعلان.

الإسلام يُعظّم شأن المرأة

ومن قرأ تاريخ المرأة في الجاهلية العربية أو الجاهلية الرومانية أو الفارسية أو الصينية أو الهندية، أو غيرها من الحضارات والجاهليات أدرك أكثر وأكثر قيمة هذا الإعلان.

ومن المحزن أن بعض المسلمين اليوم أعاد هذه الجاهلية مرة أخرى جذعه، فصار يمارسها بأسلوب أو بآخر؛ من هضم حقوقها واستلاب ما لها ومالها.

فلما سمعت بعض نساء المسلمين المسكينات المظلومات، سمعت بتلك الأصوات والأقلام التي تنادي بحقوق المرأة، والمغلفة بثياب العلمنة واللبرلة طارت المسكينة فرحًا، ورقصت طربًا وركضت هربًا، هربا من واقعها الذي ستظن أن أولئك سينقلونها إلى واقع أفضل، فلبت نداءهم وهم في الحقيقة أعداؤها.

لكنهم استغلوا سوء تصرف كثير من الرجال المسلمين مع النساء، فصاروا يدغدغون مشاعرهن بأمثال هذه العبارات.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وهنا: خطبة: فضل الأعمال الصالحات في عشر ذي الحجة

الخطبة الثانية

الحمد لله؛ والصلاة والسلام على رسول الله.

ثم ختم ﷺ هذه الخطبة الجليلة مبينا أصل السعادة والهداية، والأصل الذي تعود إليه الأمة عند اختلافها «وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أبدا إن اعتصمتم به؛ كتاب الله» فإن قلت فأين الوصية بالسنة؟ فالجواب هي موجودة في كتاب الله ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾.

فهل تعي أمة محمد ﷺ؟ هل تعي أمة الإسلام هذه المضامين العظيمة لخطبته ﷺ وهي تعيش اليوم ألوانا من المحن وصنوفًا من التخبطات والفتن؟.

ثم يختم عليه الصلاة والسلام خطبته بشيء يخصه هو، وأمر يهمه هو فيقول «وأنتم تسألون عني، فماذا أنتم قائلون» قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بأصبعه يرفعها إلى السماء ويمكثها إلى الناس «اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات.

ونحن نقول كما قال الصحب الكرام بملء الفم وبملء القلب الموقن، نشهد لله أنه ﷺ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.

وحين أراد نبيكم ﷺ النفرة من عرفة أردف خلفه أسامة ليعطي درسا عمليا لخطبته التي قالها ظهر ذلك اليوم “يوم عرفة” وهي حينما قال «كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين».

ثم يتم حجته ﷺ وهو في كل موضع من تلك المواضع يذكر الناس، حاثًا لهم على التأسي به ﷺ «يا أيها الناس خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا».

وتم الأمر كما قال ﷺ وتوقع، فقد أتم حجته وبقي إلى اليوم الثالث عشر وهو أكمل النسكين، وطاف بالبيت مودعًا، وخرج صبيحة اليوم الرابع عشر من مكة عائدًا بحفظ الله إلى مدينته ﷺ، فلم يبقى بعد هذه الحجة سوى أربعة أشهر تقريبًا، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.

تأسوا بسنة نبيكم ﷺ تفلحوا في الدنيا والآخرة

فاتقوا الله يا عباد الله، وتأسوا بسنة نبيكم ﷺ إن كنتم تحبونه ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

تأسوا به يا من تُحبونه في مظهركم ومخبركم، في عصركم ويسركم، ومنشطكم ومكرهكم تسعدوا وتُفلحوا.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

والحمد لله رب العالمين.


خطبة: وقفات مع خطبة الوداع

  • ألقاها: د.عمر المقبل -جزاه الله خيرا-.
  • فحواها: سلَّط الشيخ الضوء عنت كثب على الرسائل والوقفات الإيمانية الجليلة التي جاءت في خطبة النبي ﷺ في خطبة الوداع “حجة الوداع”. وما كان لها من عظيم الأثر في تاريخ الأُمة الإسلامية والمسلمين.
  • خطبة مقترحة: هدي رسول الله في يوم عرفة ويوم عيد الأضحى.. خطبة قصيرة وسهله

رأيان حول “وقفات مع خطبة الوداع لرسول الله يوم عرفة.. خطبة رائعة ومؤثرة”

    • مثل هذه الردود الطيبة تجعلنا نمضي قدما لنوفر المزيد من الخطب القويَة.
      جزاك الله خيرًا.

      رد

أضف تعليق

error: