خواطر بين عامين

خواطر بين عامين

من المعتاد أثناء وداع سنة ميلادية راحلة واستقبال أخرى، في ديار الغربة حيث أقيم في الغرب في مثل هذه الأيّام، أن يكون كثير من السياسيين في إجازات سنوية، لأيام عديدة، فلا يكاد يوجد من أخبار وأحداث مثيرة تمثّل وجباتٍ شهية في مآدب الإعلاميين عادةً إلاّ القليل، كأن يُضطر سياسي غربيّ أن يقطع إجازته للتعليق على بعض ما يعكّر صفوها، وغالب ذلك من قبيل وقوع عمليات عسكرية، كما في قطاع غزة مثلا، وليس القصد قصف أنفاق أصبحت رئة الحياة لأهل القطاع، أو الأحياء السكنية أو ما نجا منها من التهديم والتدمير، أو سيارات مستهدفة والقصد من يركبها من “بشر” مستهدفين، بل يستثير التعليقَ عادةً الردُّ على شيء من ذلك مهما كان الردّ متواضعا.. فآنذاك يستحقّ الأمر قطع الإجازة!..

ومن ذلك أيضا “الإنجازات البطولية” اليومية لطائرات أمريكية دون طيّار، كما في باكستان.. هذا إذا تطلّب “حجم الإنجاز” تسويغاً لسقوط مدنيين ضحايا له أو التمويه على ذلك والتشكيك فيه..

ومن ذلك مثلا ثالثا وأخيرا ازدياد احتمالات اندلاع حرب أهلية، كما في ساحل العاج، أو السودان، ناهيك عن الصومال..

ولا يخفى أنّ مسرح جميع هذه الأحداث وأمثالها -التي لا تعرف “إجازة” في أي وقت من أوقات السنة- هو البلدان الإسلامية المترامية الأطراف، حيث يسكن زهاء سدس البشرية، من مسلمين وغير مسلمين، وجميعهم –كمن في الغرب- يشهدون لحظات رحيل سنة ميلادية وحلول أخرى!..

إنّما لا يكفي ما سبق وأمثاله لتغطية حاجة الإعلاميين إلى ما يملؤون به الصفحات أو أوقات البثّ، فيعمدون إلى استعراض ما كان في سنة مضت وما يتوقعون من سنة مقبلة، كما هو معروف، ويعمدون أيضا إلى الاستفاضة في الحديث عن مواضيع أخرى بنسبة أعلى ممّا اعتادوا عليه على مدار العام.

تداعي الأفكار مع مسلسل أخبار

كنت أتابع هذا اليوم شيئا من ذلك ففاجأتني–نسبيا- مقالة في صحيفة ميتّل بايريشه الألمانية، محورها الانزعاج ممّا وصفته الصحيفة بإحراق زهاء مائة مليون يورو في ألمانيا هذا العام –ككلّ عام- على الألعاب النارية في ليلة رأس السنة الميلادية، وتساءلت الصحيفة:

– ألا ينبغي التفكير بما يمكن صنعه بهذا المبلغ لمكافحة الفقر والبؤس في مناطق عشوائية منتشرة في آسيا وإفريقية وأمريكا الجنوبية؟.. وتساءلتُ بدوري:

– إذا كان بعض الغربيين يفكّرون بهذه الطريقة حول رأس سنتهم الميلادية وما يصنعون فيه، فما الذي يمكن قوله عمّن يشجّع المسلمين –وديارُهم هي مسرح المجاعات والمآسي والحروب- على مثل تلك العادات احتفالاً برأس سنة “الآخرين” الميلادية؟..

وقبل أن أسترسل فيما تداعى عليّ من أفكار فوجئت مرّة أخرى، بمقالة أخرى، في صحيفة أخرى، وهي صحيفة تاجِسْ شبيجل الألمانية، وقد استرسلتْ في الحديث عن مبادرة أطلقها سياسي ألماني من ولاية بافاريا، يُدعى “رامْزاوَر” قبل عام واحد، وانطوت على مكافحة انتشار ألفاظ وأسماء وتعابير ومصطلحات إنجليزية في التقارير الرسمية والاستخدامات اليومية في الوزارات، فسعى لترسيخ استخدام الألفاظ والأسماء والتعابير والمصلحات الألمانية فقط، حفاظا على اللغة الأمّ في البلد الغربي الذي تربطه بالولايات المتحدة الأمريكية شتّى الروابط السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والفنية والفكرية والدينية.. ونجح بشكل ملحوظ، وتلقّى سيلا من رسائل التأييد والمديح والتشجيع، فأعلن العزم على متابعة مبادرته، وكشف عن الاتفاق مع المؤسسة الاتحادية الكبرى للسكك الحديدية –وهي شركة خاصّة بمساهمات رسمية- على أن يقوم المسؤولون فيها بحملة مركّزة مشابهة في العام الجديد..

وتساءلتُ بدوري بكثير من الألم عن نوعيّة الأفكار والمشاعر التي يحملها أستاذ جامعي عربي –مثلا- وهو يتحدّث في لقاء تلفازي ولا يستطيع الانفكاك عن استخدام كلمات إنجليزية للتعبير عمّا يريد، إمّا عجزا أو نتيجة عقدة نقص لديه، أو نتيجة اعتياد لسانه على استخدام لغة أجنبية في تدريس طلبة عرب في جامعته وعلى هجر لغته الأمّ.. ولو أردت سرد مزيد من الخواطر المتداعية على هذا الصعيد، أي كيف يجري اغتيال اللغة العربية في عقر دارها، لَما كفتْني مقالة قصيرة كهذه!..

واقرأ هنا: عام جديد يدنو

من يطبّق التوجيهات الإسلامية؟

وكنت شاردا قليلا مع هذه الخواطر –وسواها ممّا أثارته تعليقات صحفية أخرى هذا الصباح- عندما نبهتْني زوجي بمفاجأة أخرى في هذه السلسلة، وهي تذكّرني في محادثة عابرة بحديث شريف يؤكّد على لسان جبريل عليه السلام أنّ خير البلاد مساجدها وشرّ البلاد أسواقها، واسترسلتْ في الكلام عمّا يُصنع في بعض بلادنا، لا سيّما الخليجية، حتّى أصبح التسوّق “هواية” وابتُكر لرعايتها وتنمية مواهب من يعشقها ما يسمّى “مهرجانات التسوّق السنوية” التي لا يوجد مثيل لها في بقعة أخرى من العالم.. فبات “التسوّق” هدفا، ونهجا أو وسيلة من وسائل تربية الكبار وتنشئة الصغار، وسرعان ما وجدتني مع تداعي الأفكار والخواطر أمام صور أخرى، هنا في هذا البلد الألماني العربي، تعكس حرص المناهج التربوية والتثقيفية على أن تشمل زياراتٍ تقوم بها صفوف مدرسية وروابط شبابية، للمتاحف التاريخية والمعارض الثقافية والمراصد الفلكية وما شابهها.. وكأنّهم يطبّقون التوجيهاتِ القرآنية الكريمة للسير في رحاب التاريخ والاعتبار بآثار الأقدمين، وفي رحاب الكون والاعتبار بقدرات الخالق!..

أعلم أنّ في المجتمعات الغربية إلى جانب هذه الإيجابيات كثيرا من السلبيات والأمراض الاجتماعية والثقافية الخطيرة –ولست بصدد الحديث عنها هنا- بل أظنّ القارئ يعلم بكثير منها أيضا، فهي في مقدّمة ما يُنقل عن الغرب ويُروّج له، تقليدا.. وتغريبا، في قلب مجتمعاتنا داخل ديارنا الإسلامية، إنّما يبدو لي مع مثل تلك الصور الإيجابية وكثير من أمثالها، كما لو أنّ اطّلاع من اطّلع من المستشرقين والمفكرين والفلاسفة الأقدمين ورجال التربية والسياسة المعاصرين، على الإسلام –رغم كلّ ما يقال عن الجهل به- قد ساهم مع مرور الزمن في الأخذ بكثير من توجيهاته في صناعة الإنسان.. التي أغفلنا عنها أو تغافلنا، وهجرنا كثيرا منها أو “حاربناه” بتأثير دعاوى تقليد الغرب للحاق به إلى سطح القمر والمريخ في أرجاء الفضاء الكوني، وعلى خطة إنجازاته عبر اكتشاف خارطة العناصر الوراثية في أعماق تكوين الجسم البشري.

ربّما وصلوا إلى ذلك بطرق ذاتية أخرى، وجميعها إن لم تكن من الإسلام وحيا، من معين ما تعطيه نعمة العقل الربّانية للإنسان، فالحصيلة واحدة في نهاية المطاف!..

وهنا اقرأ عن: الذين لا يُباعون

صناعة الإنسان

إنّ الإنسان هو من يصنع -بمشيئة الله ونعمة العقل الربانية- “منتجات الحضارة والتقدم المدني” ولا تصنع تلك المنتجات “الإنسان”.

والإنسان هو الذي يصنع العلاقات البشرية حربا وسلما، تعاونا واستغلالا، عدالة وظلما، مساواة وعنصرية، محبة وعداوة، ويصنع ممّا سُخّر له من طاقات بشرية وثروات مادية ومناهج قويمة حضارة وتقدّما أو تخلّفا وتأخّرا، واستقامة وكرامة أو انحرافا وإجراما، ويصنع أسرة بشرية واحدة، أو مآسي إنسانية رهيبة.

وصناعة الإنسان.. هي في محور التوجيهات القرآنية والنبوية، ممارسةً للمعروف وأمرا به، وهجراً للمنكر وتصدّيا له، فيكسب خيري الدنيا والآخرة، أو أحدهما، أو يخسر هذا وذاك وهو الخسران المبين.

بعض علمائنا ومفكّرينا في القرن الميلادي الماضي رصدوا ظاهرة الأخذ ببعض تلك التوجيهات في الغرب وربّما أغفلوا جنوحه فيما لم يأخذوه، فعبّروا عن ذلك بكثير من المبالغة من خلال كلمات سرت مثلا كقول بعضهم إنّه يجد الإسلام في بلاد المسلمين ويجد مسلمين في بلاد الغرب. أمّا المبالغة فيشهد عليها ما صنعته الحضارة المدنية الغربية بالإنسان في أنحاء العالم.. وفي عقر دارها أيضا، وأمّا أنّ لهذه المقولة وأمثالها نصيبا من الحقيقة فيتجلّى في بعض مواصفات الإنسان الغربي الذي حافظت على استمرار بقاء حضارته واقفة على قدميها كالعملاق المريض حتى الآن.

من ذلك مشاعر إنسانية ورسائل إعلامية وفكرية تستنكر حَرْق الأموال في ألعاب نارية، وتأبى اغتيال اللغة الأمّ في عقر دارها، وتحرص على تربية جيل الناشئة والشبيبة على المعرفة والوعي بالتاريخ والواقع لاستشراف معالم المستقبل.. ومنها ما يسري أيضا –على سبيل المثال دون الحصر- على معرفة قيمة الوقت فهو جوهر الحياة، والنظام فهو إكسير الإنجاز، والإدارة فهي ضابطُ مردودِ ما يُبذل من جهود وينفق من وقت ومال، ولو أردنا الاستشهاد على كل عنصر من هذه العناصر وأمثالها -وأمثالها كثير- بما يوثّقه إسلاميا، ويرسم لنا النهج القويم علميا وعمليا، لتدفّق ذكر عدد كبير من الآيات والأحاديث على ألسنتا وبأقلامنا، وإنّنا لنتلوها ونردّدها بأنفسنا، ونجوّدها ونقرؤها في مطبوعاتنا وعلى شاشات حواسيبنا، ونسمعها وقد تدمع أعيننا لسماعها عبر ما تخصّص لذلك من محطاتنا الإذاعية وفضائياتنا التلفازية، فأين الخلل؟..

ألا ينبغي أن نكسر أقفالا على قلوبنا، ونزيل غشاوات عن أبصارنا، وننتزع ما ران على أفئدتنا، ونهدم سدودا أقمناها من بين أيدينا ومن خلفنا وفيما بيننا؟..

أما آن الأوان أن نستحيي من الله بفكرنا قبل دعائنا، ونخشع بعملنا قبل مآقينا، ونلتزم بأداء واجباتنا قبل الجدل حول حقوقنا، وأن نربّي أنفسنا قبل تربية أطفالنا، وأن نعبد الله في أسواقنا كعبادتنا لله في مساجدنا؟..

أما آن الأوان أن نجعل من إعلامنا وسائل نستخدمها لا أن نجعل من أنفسنا وأسرنا وأخلاقنا وسلوكنا أدواتٍ يستخدمها، وأن نجعل من السياسة نهجا لخدمة مصالحنا لا قمعا لمن ينصحنا في ديننا ودنيانا، ونجعل من الاقتصاد نهجا لبناء بلادنا لا مرتعا لمنافع فاسدة تهدم ما بقي من وجودنا، ومن لغتنا سلّما لمجدنا لا مذبحا لتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومن سلوكنا مدخلا لمحاسبة أنفسنا قبل غيرنا؟..

{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلونْ} [الحديد: 16و17]

أما آن الأوان أن نعلم أن مستقبلنا حاضر الآن.. بين أيدينا، نملكه بأنفسنا، فإمّا أن نصنعه ونرحل، أو يصنعه لنا سوانا.. ونرحل، كما يرحل هذا العام وسواه.. إلى يوم قريب.

{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران: 30 و31].

بقلم: نبيل شبيب

أضف تعليق

error: