مقدمة الخطبة
الحمد لله عظمت منته، وعمت رحمته، سبحانه وبحمده، غمر عباده إحسانا ولطفا، وتفضل عليهم جودا ومعروفا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذكر الإنسان بمنته عليه فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾، زين في قلوب المؤمنين الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير البرية أقصاها وأدناها، وأفضل الخليقة وأوفاها، المبعوث هاديا ومبشرا ومتمما لمكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷻ، فاتقوا الله – يرحمكم الله-، وأحبوا لغيركم ما تحبون لأنفسكم، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن إليكم، ولا تقولوا لغيركم ما لا تحبون أن يقال لكم، فـ «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه».
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: إن من أجل نعم الخالق ﷻ على الإنسان أن جعل له قدرة على التعبير عن ذاته، فهو يظهر ما في نفسه، ويبين رأيه، ويعبر عما يحب وما يكره، وما يسعده وما يبغضه ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، وقد بينت هذه الآيات الكريمات بعض أفضال الخالق على الإنسان، أن خلقه وعلمه البيان، ليتمكن من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره، ومع هذه النعمة، وغيرها من نعم الخالق، تأتي مسؤولية عظيمة تكمن في حفظها من وجوه الشر وتسخيرها في وجوه الخير، بعد أن تبين للإنسان خيار الخير وخيار الشر ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، فشكر النعمة إعمالها فيما يصلح، وكفرها إعمالها فيما يضر ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
ومع اختلاف الناس في مشاربهم وثقافاتهم ووجهات نظرهم، إلا أنه يتفق عقلاؤهم وذوو الألباب منهم على أن التعبير عن الذات، منطوقا كان أم مكتوبا – وإن كان من الحقوق الطبيعية للإنسان- هو حق كغيره من الحقوق يأتي بمسؤوليات وواجبات يجب أن تراعى وأن تؤدى، وأن الحرية فيه، لا يمكن ولا ينبغي لها أن تكون، إذا ما تعدت على غيرها من الحقوق، والواجبات والمسؤوليات، كالتعدي على كرامة الإنسان، أو استقرار المجتمعات والأوطان.
أيها المؤمنون: إن تهاون البعض في استعمال أدوات التعبير ووسائله المختلفة، ليعبروا عن أنفسهم وآرائهم، بطرق وصور غير مسؤولة، هو تهاون لا يجب أن يقع فيه المسلم، فالمسلم مأمور بأن يتحلى بمكارم الأخلاق، وأن يتصف بأجمل الصفات، وأن يتحرى الإحسان في القول والعمل، فقد جاء في محكم التنزيل قوله ﷻ: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، فحرية التعبير إذا ما أساء استعمالها الإنسان، وأطلق لها العنان، دون اعتدال واتزان، كانت سببا في الفتن، وإثارة الخلافات والنزاعات بين الأفراد والمجتمعات، يقول الله ﷻ: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾.
إن مراجعة النفس قبل التعبير عن الذات، وكف الكلمة أكانت منطوقة أم مكتوبة عن اللغو والإيذاء والخوض فيما لا فائدة منه، سمة من سمات المؤمنين الذين امتدحهم الله ﷻ ووعدهم بالفلاح، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، وقال أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
فالإسلام بتعاليمه الفاضلة أراد للمسلم أن يكون مثالا للإنسان الخير الفاضل، بأخلاقه ومآثره، وهذا لا يتأتى ولا يتحصل في الإنسان إلا إذا كان واعيا لتبعات أعماله من أقوال وأفعال، مدركا نتائجها وآثارها، ومستشعرا مسؤوليته تجاهها وأنه محاسب عليها.
عباد الله: لقد أصبحت وسائل التواصل الحديثة من منصات ومساحات رقمية أدوات رائجة للتعبير عن الذات، وتبادل الآراء والمناقشات، إلا أنها وفي الوقت ذاته، عززت في نفوس البعض سلوكيات غير محمودة في التعبير عن الذات قولا وفعلا؛ فاتخذوها لسهولتها وسرعتها سبيلا إلى التعدي على الآخرين، ونشر ما يخالف الصواب، وترويج ما يتعارض مع قيم المجتمع وأخلاقه من الأقوال والأفعال، فغيبت في أذهانهم ضغطات الأزرار، وسرعة استقبالهم وإعادة نشرهم للمحتوى في ثوان معدودة، وزن الكلمة وثقلها، وأثرها المباشر على نفس المتلقي، وغير المباشر على علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ونظرة الآخر وتصوراته عن مجتمعهم وقيمه.
فليعلم أولئك أنهم مسؤولون: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾، وأن ما يبدر منهم من أفعال وألفاظ محفوظ عليهم: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وعليهم ألا يتغافلوا وألا يتناسوا المسؤولية الاجتماعية المشتركة التي تحتم على الجميع المحافظة على المنجزات المجتمعية، ومراعاة الصالح الأعم للمجتمع؛ فمنجزات المجتمعات والأوطان لا تقاس بتقدمها المادي فحسب، بل بموروثها القيمي والإنساني كذلك، وبنهضتها الأخلاقية التي تحفظ للإنسان كرامته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أسبغ على الإنسان نعمه ظاهرة وباطنة، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين وبارك.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: لقد ضرب الله ﷻ لنا في سورة إبراهيم مثلا عظيما، فصور – للمتأملين آياته – قوة الكلمة الطيبة وأثرها الحسن وثباتها في نفوس متلقيها فقال عز من قائل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، كما صور – للمتدبرين آياته – الوجه الآخر من الكلمة، وهي الكلمة الخبيثة التي لا ينتفع منها الناس، فقال: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾، وقد تأكد هذا المعنى في القرآن الكريم مرة أخرى، حين اقترنت الكلمة الطيبة بالعمل الصالح، فالذي طابت كلمته صلح عمله، والذي صلح عمله طاب كلامه، يقول الحق ﷻ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الكلمة الطيبة منجاة للعبد في دنياه وأخراه، فقد قال فيها: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.