تربية البنات.. لا تفريط ولا إفراط

تمت الكتابة بواسطة:

تربية البنات.. لا تفريط ولا إفراط

السائِلة تقول: أنا أم لاثنين.. بنوتة بلغت قريبًا 12 سنة وولد عمره 8 سنوات، منذ زمن وأنا أرسخ داخل ابنتي أن فكرة الصديقة المخلصة لها في هذه الدنيا هي أنا، والحمد لله أجد أنني وُفِّقت إلى حد ما في تأصيل هذه الفكرة، ولكن ما يقلقني هنا عدة أمور:

  1. الحكايات المستمرة عن زميلاتها اللاتي لا أرضى عن سلوكهن، ولكن ما يثلج صدري أنها لا تخفي عليّ ما تراه من انحرافات وتحكي عنه.
  2. أجد ميلاً منها للبنات اللاتي لهن تحرر في ملابسهن، مع العلم أنها قد تحجبت منذ سنتين بطلب، بل بإصرار شديد منها، وحاولت ردعها لحين أن يأتي وقت الحجاب، ولكنها بكت وأصرت، بل لم تطرح الموضوع للمناقشة، وفوجئت بها أتت في يوم تقول لي يا ماما باركي لي أنا تحجبت خلاص (الموضوع تم مناقشته مسبقًا ولم تكن مترددة في أخذ القرار، ولكن سرعة قرارها كان إثر حصة تربية إسلامية كانت تحب معلمتها كثيرًا فأخذت القرار بعده). الحمد لله ما زالت محتفظة بحجابها ومحافظة عليه، ولكن ميلها لتلك الفتيات يثير القلق داخلي، وللأسف لست أجد إلى الآن من يحل مكانهم، خصوصًا أنني في بلد غربة وليس هناك من حولي من يوافقها السن والميول التي تربينا عليها.
  3. أجد حيرة كيف سيتم التخلص من شعر العانة والإبطين، خاصة أن جلدها رقيق لا يتحمل الطرق التقليدية وبصراحة احترت جدًّا في هذا الموضوع، خاصة أنني جربت عملية التقصير إلا أنها ظلت تبكي طوال الليل من (تشويك الشعر لها) فماذا أفعل؟.
  4. الغيرة الواضحة وغير المخفية من أخيها فلا تتحمل أي مدح له أمامها، خاصة أنه مستواه الدراسي أعلى منها، وكنت دومًا حريصة على عدم عمل مقارنة، إلا أنها هي من كانت تقارن دومًا وأبدًا نفسها به (يا ماما يلا نذاكر إشمعنى أخويا مش بيذاكر ليه؟ ما فيش عنده امتحان بكره أو هوا لسه في 3 ابتدائي، أنت في سابع ما فيش وجه للمقارنة، وهلم جرا…).
  5. أخاف من حرصي الشديد على عدم ضياع علاقتي مع ابنتي أن أهضم حق ابني الذي أراه فلتة من فلتات الزمان، فكما أرى أنني أبذل الكثير من الطاقة النفسية والوقتية في محاولة الحفاظ على المسيرة العلمية والنفسية لابنتي (هي نفسيًّا شديدة التعقيد مزاجية جدًّا كارهة من الدرجة الأولى للدراسة)، إلا أنني أرى أن ابني القليل معه يأتي بالثمار الرائعة والمثمرة، ولكن ما إن التفت إليه حتى تبدأ نار الغيرة تأكلها.
  6. أخاف أن تؤثر على أخيها سلبيًّا بما عندها من صفات، خاصة أنني أسمعه يردد ما كانت تردده مثل “إشمعنى” أختي أو أكره المذاكرة، وهكذا…
  7. كيف أحافظ على علاقتي مع ابنتي في أوْجها مهما حدث من أحداث خارجية؟ وكيف أستثمر طاقات ابني، حيث إن طريقة تربيته تختلف عن طريقة تربية أخته، وهنا أجدني في معضلة شديدة من مطالبة كل واحد منهما بالمساواة، في حين أن طريقة استجابته غير طريقة استجابتها؟.
  8. بالنسبة لزوجي فهو يحاول أن يقوم بدوره على أكمل وجه، ولكن غريزيًّا (مش فاضي بأه للقراءة لكتب التربية الحديثة والكلام ده كله)، وعندما أحاول مناقشته أو مراجعته في خطأ أراه حدث في التعامل أو العقاب يمطرني بكلام أنك (أنت اللي مدلعاهم سيبيني عليهم وأنا أوريهم إن الله حق أنت كده مش بتفيديهم).

أراني قد أفرطت في تعداد مخاوفي، ولكن ما شجعني هو حرصكم على النصح الأمين وخبرتكم الوفيرة؛ فأرشدوني جزاكم الله عني وعن كل أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الخير.

الـرَّد

وهنا تقول الاستشارية أ/عزة تهامي: سيدتي القلقة -كما لقبت نفسك- أجد أن المشكلة تكمن في هذا اللقب الذي عرّفت به نفسك، ومن الجملة الأخيرة التي ذيلت بها خطابك: “أراني قد أفرطت في تعداد مخاوفي”، واسمحي لي سيدتي أن أوافقك الرأي تمامًا، فإن هذه المخاوف هي التي تضخم حجم المسألة، ولا أقول المشكلة.

إن الحرص الشديد على مصلحة أبنائنا والخوف الشديد من البيئة المحيطة يجعلنا نفرط في حمايتهم، ونسينا أننا نربيهم ليخرجوا رجالاً ونساء يواجهون معترك الحياة بأنفسهم، ودورنا يتحدد في أن ندربهم على هذه المسئولية منذ نعومة الأظافر.

يقول أستاذنا الدكتور العلامة محمد سليم العوا في كتابه “بين الآباء والأبناء.. تجارب واقعية” والذي أنصح بقراءته، يقول في فصل بعنوان التدريب العملي: “كلما أتاح الأبوان لأبنائهما فرصًا أكثر للمرور في تجارب الحياة العملية، كان عُودُ الأبناء أسرع صلابة وأحسن إحكامًا عندما يواجهون بأنفسهم هذه الحياة دون رقيب من الأبوين ودون معين منهما”.

فلا تخشي سيدتي أن تتركي ابنتك تتعرف -ولا أقول تصادق- على فتيات في مثل سنها، وأن ترى السيئ والحسن والصالح والطالح ما دامت تحصنت بحصن الخلق والتنشئة الصالحة في بيتها، والأهم من ذلك كله ما غرزته فيها منذ الصغر -بارك الله فيك- من الصدق والمصارحة بينكما فهي ميزة لا تعادلها ميزة، فلا تفقديها بكثرة مخاوفك وإلحاحك بالوعظ والإرشاد، بل دعيها تحكي لك -كما تفعل الآن- دون أن تصادري أفكارها أو مشاعرها، ودعيها تبدأ هي من نفسها تفنيد الصواب من الخطأ والجيد من الرديء، وأن يكون لها الاختيار الحر المسئول كما غرست فيها طوال سنوات عمرها الاثنتى عشر، واحرصي على صداقتك لها، والزمي الحوار الفعال والذي قوامه البنود التالية:

  1. الانتباه والإنصات.
  2. متابعة الحوار (دون مقاطعة).
  3. إظهار التعاطف (لا الشفقة أو الخوف أو القلق).
  4. عدم مصادرة الأفكار أو المشاعر حين تتحدث.
  5. لا تحاولي إكمال عباراتها بدلاً منها.
  6. لا تستمعي بنية الرد.
  7. لا يكون الهدف من الحوار أو الاستماع هو الاستدراج أو الاستجواب.
  8. كوني محايدة عند سماع ابنتك، ولا يكون الهدف من الحوار هو إقناعها بوجهة نظرك، واعلمي أن المحاور الجيد هو المستمع الجيد.

مهارات الحوار الجيد السابقة ليست خاصة بابنتك فحسب، بل لا بد أن يتسم بها حوارك بشكل عام مع طفليك، وعند التزامك بما سبق ستكسبين ابنتك خاصة وهي مقدمة على مرحلة المراهقة والتي تأبى الفتيات فيها الوعظ المباشر ويظهر عليهن أمارات التمرد والاستقلالية والرغبة في أن يكون سلوكهن طبقًا لأفكارهن هن وليست أمرًا يُملى عليهن.

وليس معنى اهتمامك بابنتك أن نهدر حق ابنك المميز -حفظه الله- بل يجب أن يُراعى هو الآخر دون إفراط أو تفريط، واسمحي لي أن أنبهك أن اهتمامك الزائد وخوفك على ابنتك زاد من إحساسها بالغيرة كما أشرت أنت في رسالتك، وللحد من هذه الغيرة عليك أن:

  • تكتشفي وتنمي مهاراتهما معًا، وأن يُمدح كل منهما بما ميّزه الله من قدرة ومهارة، كأن تمدحي ابنك على نظامه مثلاً وعلى رسمه إن كان مميزًا بهما، وأن تمدحي الابنة بما يميزها عن أخيها.
  • تحاولي تخصيص وقت لكل منهما على حدة فيشعر كل منهما أن له نصيبًا منك. دعي من تتحدثين معه منهما التعبير عن نفسه، وليس شرطًا أن تتناولي المشكلات الخاصة بمن تتحدثين إليه، بل يمكن أن يدور الحوار في أمور عامة أو فيما يرغب هو التحدث عنه.
  • لا يعني هذا ألا تشتركوا جميعًا في نشاط معين أو مناقشة مشتركة أو نزهة تجمع شمل الأسرة أو تعاون في الشئون المنزلية، بل كل ذلك يحدث بالتوازي والتوازن.
  • عندما تُظهر ابنتك غضبًا لاهتمامك بأخيها فلا تلتفتي لهذا، ولا تعلقي على انفعالها، فعليها أن تفهم من خلال سلوكك معهما -ومن خلال تنفيذ الاقتراحات السابقة- أن لكل منهما نصيبًا في الاهتمام والمحبة والرعاية، وهذا كفيل أن يقلل الغيرة دون الحاجة إلى كلام مباشر، فلا بد أن تعي (أي الابنة) أن هناك آخر تُلبى احتياجاته وله مكانة على خريطة اهتمام الأسرة.
  • لا بد أن تكوني ثابتة واثقة من نفسك في التعامل مع ابنتك، ولا يبدو عليك الحيرة أو الدفاع عن نفسك حينما توجه إليك لومًا لاهتمامك بأخيها، بل يمكن القول بشكل حازم: “كل منكما ابني ولا أميز أحدًا على أحد” فإن أصرت على أنك تميزين أخاها فانظري إليها قائلة: هل تعتقدين هذا حقًّا؟ فإن أجابت بالإيجاب، فلا تعلقي وإن نفت فبها ونعمت.
  • المطلوب في التعامل مع الأبناء هو العدل وليست المساواة، فلا بد أن نربي الفتاة على أن تقوم بدورها الأنثوي بالمجتمع وكذلك الذكر؛ فالأعمال التي تحتاج إلى عضلات وقوة فهي من نصيب الذكور، والأمور التي تحتاج إلى الرعاية والرقة من نصيب الفتيات؛ ولذا يساهم الصبي في حمل المشتريات والتدريب على كي الملابس والخروج مع والده في مجال العمل؛ ليعرف كيف يتعامل مع الآخرين… إلخ. وأما الفتاة فتدرب على رعاية الأطفال من خلال لعبها بعرائسها، وتعرف من أمور الطهي والأعمال المنزلية ما يؤهلها لإدارته فيما بعد. وليس معنى هذا ألا تدرب الفتاة على مواجهة المجتمع والعمل به أو يقتصر دور الصبي على الخارج، بل كل منهما يدرب على مهام الآخر لو اضطرته الظروف أن يتحملها، ولكن المسألة مسألة أولويات.

أما بالنسبة لإزالة الشعر فبعد أن تبيني لها الحكمة من إزالته ويرسخ في ذهنها أهمية هذه الإزالة وأنها نوع من النظافة واتقاء للروائح الكريهة، يمكن أن تراك وأنت تقومين بإزالة شعر الإبط واليدين فقط بشكل عملي بالطريقة التقليدية؛ لأنه ثبت علميًّا أنها أفضل السبل وأضمنها، ولا تخشي على جلدها الرقيق فسرعان ما ستتعود على الأمر، واجعليها تبدأ تدريجيًّا تحت الإبط أولاً، ثم اليدين، ثم العانة والأفضل أن تبدأ في فصل الصيف.

وبالنسبة لزوجك فليس المطلوب منه أن يقرأ في الأمور التربوية، فلا تطلبي منه ذلك إن لم يفعله من تلقاء نفسه، بقدر استثمار وقته مع ابنيكما في المرح واللعب وممارسة بعض الأنشطة والتنزه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والتخلل بالموعظة الحسنة المقتضبة لهما.

دعيني في ختام رسالتي أهمس لك بأمر غاية في الأهمية من وجهة نظري: إن التركيز الزائد على أبنائنا في كل كبيرة وصغيرة يؤدي إلى عكس النتائج التي نرجوها منهم، فلا تضعي تصرفات وسلوكيات طفليك تحت المجهر فإن ذلك مدعاة للتمرد والعصيان والإحساس بالاختناق، بل والتجرؤ، فاتركي مساحة لا ترين فيها أخطاءهم دون قلق أو خوف.

وأخيرًا.. دعواتي بأن يهيئ الله لك من أمرك رشدًا، وأنتظر منك متابعة أخرى تخبريني فيها عن تخلصك من هذه المخاوف وهذا القلق.

وهذه المواد مفيـدة أيضًا:


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: