خطبة عن التسامح والعفو «مكتوبة وجاهزة»

ما أحوجنا كمسلمين في هذه الأيام أن نستمع إلى خطبة عن التسامح والعفو والصفح، تحثنا على التمسك بهذه الأخلاق الفاضِلة، وهذه السلوكيَّات الحسنة. فلا يخفى عليكُم ما وصلنا إليه مما في القلوب مما يعلمه الله -سبحانه-، حتى ظهر جليًا في تعاملاتنا.

نحتاج إلى غِراس جديدة لخُلق الصفح والتساهل، الحلم، العفو، اللين. ونبذ التزمت والتشدد والتَصَلُّب والقَسَاوَة.

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حير مقل العقول من عجائب قدرته، وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته. يعلم ضجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف الأموات في البحار الزاخرات، واختلاف الماء بالرياح الساريات.

الذي عَظُم حِلمه فعفا، والذي عدل في كل ما قضى، والذي يعلم ما يمضي وما مضى.

الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى.

سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسي، سل الروض مزدانًا سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطيْر شاديا، وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا، فلو جن هذا الليل وامتد سرمدًا فمن غير ربِّي يرجع الصبح ثانيا؟!

وأشهد أن لا إله إلا الله، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.

وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ أرسله الله رحمة للعالمين وإمامًا للمتقين.

يا خير من جاء الوجود تحيّة – من مرسلين إلى الهدى بك جاؤوا

بك بشر الله السماء فزيّنت – وتضوّعت مسكاً بك الغبراء

يا سيدي يا رسول الله؛

عين تسر إذا  رأتك واختها.. تبكي  لطول تباعد  وفراق

فاحفظ  لواحدة دوام  سرورها.. وعد التي أبكيتها  بتلاق

صلى الله وسلم وبارك على هذا النبي العظيم، وآل بيته الطيبين، وصحبه الغُرّ الميامين.

أوصيكم يا عباد الله ونفسي الخاطئة المذنبة المقصرة المؤثرة بتقوى الله العظيم وطاعته، ولزوم أوامره وكثرة مخافته.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

الخطبة الأولى

ثم أما بعد، فيا أيها الطيبون المباركون، لو تأمَّلت واقع التأريخ ونظرت إلى واقع الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، لوجدت أن الدول والمجتمعات ما قامت على الثأر والانتقام والتشفي، وإنما قامت على التسامح والعفو الذي أمر الله -عز وجل- به.

العفو وما أدراك ما منزلة العفو؛ لما أتى حينٌ من الدهر على المسلمين أنهم فضلوا الثأر والانتقام والتشفي على مقام العفو والتسامح ونقاء القلب وسلامة الصدر، أصاب قلوبنا من الآهات واللوعات والهموم والنكد والأحزان مما تسمعون وترون.

ولو قلَّبت آيات القرآن لوجدت أن القرآن حافلٌ بآيات العفو، قال ربي -جل جلاله- في سورة النور {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}.

وقال -تعالى- يوم أن تكلَّم عن العفو، رقَّاه الله -عز وجل- إلى مقام الإحسان الذي هو ثالِث رتبة من مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان. قال -تعالى- في سورة آل عمران {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

الإحسان الذي ينطلق من قاعِدة العفو عن أخيك. لو رأيت واقع المسلمين اليوم لوجدت من الأحقاد والضغينة بين أفراد الأسرة الواحدة، بل غزى الحقد وعدم العفو حتى بين الصِغار، بين أبناء القبيلة الواحدة، في الدائرة، في الوظيفة، في الجامعة، في العيادة، في المشافي، في المؤسسات.

منهج التسامح والعفو

العفو منهجٌ عظيم، هو منهج النبيين والمرسلين.

سيدنا محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- ما جاء ليقتل الكافر، إنما بُعِثَ ليقاتل ويقتل كفر الكافر، حتى أنه ذات يوم بينما كان نائِما تحت ظل شجرة، تنام عينه وقلبه لا ينام، وسيفه معلقٌ على أغصان الشجرة.

فجاء المشرِك، فأخذ السيف، وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟ فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاطبه بلسان الواثق المتوكل على الله، قال «الذي يمنعك مني هو الله». فاضطرب المشرِك وسقط السيف من يده، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: أسألك العفو. فقال «اذهب فقد عفوت عنك».

بل في الحديث المتفق عليه، يحكي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نبي من النبيين أدمى قومه جبهته، وسال الدم؛ فهل دعا عليهم؟ لا والله، إنما قال «يا رب، اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

وإذا أخذت العفو أو أعطيته فجميع عهدك ذمةٌ ووفاء.

بل هذا سيدنا يوسف -عليه الصلاة والسلام- تآمر عليه إخوته حسدًا وكيدا، فألقوه في البِئر، وبِيْعَ بدراهِم معدودة، وحرموه من أبيه ثمانين سنة -على بعض الروايات-، ولما التقوا بيوسف، وبعد أن تعرَّف عليهم وتعرفوا عليه، {قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ | قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

واعلم -يا رعاك الله- إنَّ لذَّة العفو أطيب وأعظم وأعذب من لذَّة التشفي، لأن لذَّة العفو يعقبها حمدُ العاقبة، وإن لذَّة التشفي والثأر والانتقام يعقبها لحظات الندم.

ولا تقوّلني ما لا أقول، فإني لا أقصد العفو عن القتلة أو عن الذين أراقوا الدماء؛ لكن أقصد أن هناك من الناس من أُخِذ بجريرة غيره، من أُخِذ بأقلام الوشاة والمخبرين، من أُخِذ بالخلافات والخصومات بين الجيران. فكَم من إنسان بريء يرزح في غياهِب السجون وهو بريءٌ كبراءة الذئب من دم يوسف.

تعال معي أسوق لك قصتين من تاريخنا، وهما يمثلان سبيل التسامح والعفو.

قصة تميم بن جميل السدوسي

الخليفة العباسي المعتصم كانت لديه معارضة، يقودها تميم بن جميل السدوسي.

يقول القاضي أحمد ابن أبي داود: لما أُلقيَ القبض على تميم، والله ما رأيت رجلا لم يهب الموت، وأشد ثباتًا منه.

خرج المعتصم وجمع الناس، وجِيء بالنطع والسيف. والنطع هو الجلد الذي يوضع تحت الذي يُقام عليه القتل، فإذا سال الدم لا ينتثر يمينا ولا شمالا، النطع جلد يوضع تحت المقتول.

فتقدم تميم بن جميل السدوسي في رباطة جأشٍ وثباتٍ، فتعجب المعتصم من هذا الرجل الذي لا يهاب الموت، فاستنطقه -أراد أن يعرف لسانه وعقله- فقال له: يا تميم، إن كان لك عذرٌ فأتِ به، فقال تميم: أما أذِن لي أمير المؤمنين، فأقول الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، وجعل نسله سلالة من ماء مهين؛ يا أمير المؤمنين، جبر الله بك صدع الدين، ولمّ بك شعث الإسلام والمسلمين، وأخمد بك شهاب الباطل، وأنار بك سبيل الحق. يا أمير المؤمنين، وأيم الله لقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأنت للعفو وبه أشبه وأليق.

وأنشد يقول:

أرى الموت بين السيف والنطع كامناً … يلاحظني من حيث ما أتلفت

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي … وأي امرئ مما قضى الله يفلت

وأي امرئ يدلي بعذر وحجة … وسيف المنايا بين عينيه مصلت

يعز على الأوس بن ثعلب موقف … يسل علي السيف فيه وأسكت

وما جزعي من أن أموت وإنني … لأعلم أن الموت شيء مؤقت

ولكن خلفي صبية قد تركتهم … وأكبادهم من حسرة تتفتت

كأني أراهم حين أنعى إليهم … وقد لطموا حر الخدود وصوتوا

فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة … أذود الردى عنهم وإن مت موتوا

وكم قائل لا يبعد الله داره … وآخر جذلان يسر ويشمت

فطأطأ المعتصم رأسه، وإذا بالدموع تتقاطر على لحيته. قال: صدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يوم أن قال «إن من البيان لسحرا»، يا تميم اذهب، فقد عفونا عنك، ووليناك على ولاية من إمارات المسلمين، أعطوه خمسين ألف درهم يستعين بها على دنياه.

سجلها التاريخ للمعتصم، لو انتقم ولو قتل ولو سفك الدم؛ والله ما سُجِّلَت له.

ولذلك؛ فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة، نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس وهم يسير، فينطلقون إلى الجنة سراعا. فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنا رأيناكم سراعا إلى الجنة، فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا عفونا، وإذا جهل علينا حلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.

بل؛ يقول سيدنا علي كما روى الإمام أحمد في مسنده: ألا أخبركم بأفضل آية حدثنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قيل له: وما هي؟ قال: قوله -تعالى- {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير}.

فالمصائب؛ كالأمراض والابتلاءات و -حاشا لله- أن يعفو ثم يعيد العقوبة ثانية في الآخرة. لما قال {وَيَعْفُو عَن كَثِير}، أي عفى الله عنهم في الدنيا وحاشا أن يغضب بعد أن حَلِم وبعد أن علِم فعفى.

لَمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ … أَرَحتُ نَفسي مِن هَمِّ العَداواتِ

إِنّي أُحَيّي عَدوّي عِندَ رُؤيَتِهِ … لِأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحِيّاتِ

وَأُظهِرُ البِشرَ لِلإِنسانِ أَبغَضُهُ … كَما إِن قَد حَشى قَلبي مَوَدّاتِ

النَّاسُ داءٌ، وداءُ النَّاسِ قُربُهمُ … وفي اعتزالِهمُ قطعُ الموداتِ

وأعظم شيءٍ تضرب به خصمك هو العفو،

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم … ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

واسمٌ من أسماء الله -عز وجل- هو العفو، ومعناه هو الذي يتجاوز عن الزلات ويمحو السيئات ويصفح عمَّن تاب وأناب.

والفرق بين الصَّفح والعفو، لما قال {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}، أن العفو هو محو الذنب وترك الانتقام. قال لبيد بن ربيعة العامري -صاحب المعلقة-:

عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها … بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها

أي عفت ديار الأحبة، لم يبقى لها منها أثر.

وكذلك الذي يعفو، أن يترك الانتقام، والصفح ترك العتاب وترك الملام.

ختامًا أُركز على أنه لا يجوز أن تظلم قريبا لان لديك خصومة مع قريبه؛ مع أخيه، مع أبناء عمومته.

فلنرجع إلى العفو وإلى التسامح وإلى عدم التشفي والانتقام.

سئمنا من ثقافة نبش الماضي، ونبش التاريخ، ونبش أحقاد الآباء والأجداد، ولنعش بسلامٍ، فإن العمر قصير وإن الدنيا زائلة وفانية. والله -عز وجل- يقول {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ | وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آل بيته وصحبه وعلى من مات على ملته إلى يوم نلقاه.

أما بعد، أيها المسلم الحبيب؛ عليك بالحلم، والتحلي بصفات التسامح والعفو والصَّفْح.

الدعاء

اللهم إنا نسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة الحبيب المصطفى في أعلى جنان الخُلد.

اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.

يا عالم السر والنجوى، يا كاشف الضر والبلوى؛ يا من إليك وحدك تُرفَع الشكوى، يا عالم السر منا لا تكشف الستر عنا.

اللهم اجعل الحياء والعفة لنسائنا وبناتنا وزوجاتنا، والغَيرة لرجالنا، وقول الحق لعلمائنا.

اللهم وحِّد كلمتنا واجمع صفوفنا، وحسِّن خواتيم أعمالنا، وجعل العفو في مجتمعاتنا، بين أُسرنا، واجعلنا متسامحين، متوادين، متحابين في سبيلك يا رب العالمين.

اللهم دبرنا فما عُدنا نحسن التدبير.

اللهم نعوذ بك من الفتن والمِحن ما ظهر منها وما بطن، وما تحرك منها وما سكن.

اللهم فرج عن بلادنا، واجعل بلدنا آمِنة مطمئنة مستقرة وسائر بلاد المسلمين.

اللهم إنا نسألك الأمان لبلادنا والتيسير والإحسان لمعسرنا، اللهم وفق القائمين على حِفظ أمننا.

هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


خطبة عن التسامح والعفو

ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحميد جدوع الجميلي، فجزاه الله عنا خيرا.

فحواها: أطنب الإمام في الحديث عن التسامح والعفو، وضرب عديد أمثلة من السنة النبوية ومن قصص السلف والتابعين.

كما استشهد بعديد آيات من القرآن الكريم، ليوثّق الخطبة ومضمونها.

أضف تعليق

error: