خطبة عن لطف الله بعباده – مكتوبة

خطبة عن لطف الله بعباده – مكتوبة

عناصر الخطبة

  • اسم الله اللطيف مشتقٌ من اللطف وهو بمعنى الرفق والإكرام والإحسان، فيحمل في طياته إشراقات وبشائر تأسر القلوب وتُدهش العقول وتُطمئن النفوس.
  • الله لطيف بعباده فهو يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دقّ منها وما لَطُف، ثم يسلك في إيصالها إلى العباد سبيل الرفق دون العنف.
  • لطف الله ﷻ بعباده يحمل الرحمة الكاملة الدائمة التي تحفظ العبد من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
  • حظ العبد من لطف الله ﷻ به أن يصبح العبد خلوقاً مع الناس، لطيفاً في معاشرته للخلق.
  • ومن صور لُطف الله ﷻ بعباده أنه أعطى الناس فوق ما يحتاجون، وكلّفهم دون ما يطيقون، وهو سبحانه يلطف بهم حين نزول الشدائد والمصائب.

الخطبة الأولى

إن من أعظم أبواب زيادة الإيمان وغرس اليقين في القلوب والنفوس معرفة العبد ربّه؛ فالمسلم محتاج في كل وقت أن يتعرف إلى معاني أسماء الله وأوصافه؛ لتصحيح طريقه وتصوراته وتجديد إيمانه وتزكية أخلاقه وإصلاح ما فسد من أمور حياته، وفي قوله ﷻ ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ الشورى: 19.

يثني الله فيها على نفسه، بأنه كثير اللُّطف والإحسان بعباده، يجري لطفه عليهم في كل أمورهم، في دنياهم وأخراهم، واسم الله اللطيف مشتقٌ من اللطف أو اللّطافة وهو بمعنى رَفَقَ وأكرم وأحسن، فلطف الله ﷻ يفتح باب الأمل والرجاء والرحمة، يدرك ذلك من فهم ما يشير إليه هذا الوصف من المعاني، وما يحمله من إشراقات وبشائر تأسر القلوب وتُدهش العقول وتُطمئن النفوس، فمن معاني الله لطيف بعباده:

أنه ﷻ العالِم بدقائق أمورهم وأحوالهم؛ لأن الشيء الدقيق الخفي يسمّى لطيفاً، ولهذا قال الله في سورة لقمان: ﴿يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ لقمان:16.

وعلم الله بدقائق أمور الخلق يشمل ما لا يراه الإنسان بعينه المجردة من أحوال المخلوقات الدقيقة وتفاصيل حياتها، ويشمل كذلك ما يخبّأه الإنسان ويضمره من مشاعر وأحاسيس ودوافع لا يعلمها إلا اللطيف جلّ جلاله، فإدراك المسلم لهذا المعنى بأن الله متصفٌ بدقّة العلم مع إحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وعلمِه بالظاهر والباطن يدعوه لمحاسبة نفسه ومراقبة ما يصدر عنها من أقوالٍ وأفعال، همزاتٍ ولَمَزات؛ لأنه ﷻ سيحاسبنا على ما صدر منا ولو كان مثقال ذرة، قال الله ﷻ في سورة الزلزلة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ الزلزلة: 7–8.

ومن معاني لطف الله بعباده أنه سبحانه يوصل إحسانه إلى مخلوقاته بِرِفْق؛ قال الإمام الغزالي رحمه الله: “إنما يستحق هذا الاسم –اللطيف– من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دقّ منها وما لَطُف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف”.

فاللطيف ﷻ وحده الذي يعلم ما ينفع الإنسان ليسخره له برفق وإحسان، ويعلم ما يضره فيصرفه عنه، واللطيف ﷻ وحده الذي يَقدرُ على إيصال تلك المصالح للعبد، ودفع المضرّات عنه برفق وإحسان.

فمن مظاهر لطف الله ﷻ بالإنسان أنه سخّر له ملائكة يحفظونه بالليل والنهار في نومه ويقظته وسكناته وحركاته، يقول ﷻ: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ الرعد: 10–11.

وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام.

وتتجلى مظاهر حفظ الله ﷻ بالإنسان ولطفه بالإنسان من كل سوء ومكروه، ما حدث من قصة موسى عليه السلام حين تعدى بطش فرعون وظلمه لقتل الأطفال واستحياء النساء ولكن لمّا حلّ لُطف الله ﷻ بدار أم موسى انقلب الخوف إلى أمن، والهلع إلى طمأنينة، والهروب من القتل إلى إقبال على الحياة، وليصبح المضطهد الغاشم هو المُعيل الحاني، وليرجع موسى إلى أحضان أمه الخائفة الحزينة، ويمكن الله ﷻ له في الأرض ويظهر الحق على يديه.

يقول ﷻ: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ طه: 38–41.

ومن صور لُطف الله بعباده الممتزج بالرفق: أنه ﷻ أعطى الناس فوق ما يحتاجون، وكلّفهم دون ما يطيقون، يقول ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الأعراف: 42.

فالله ﷻ يلطف بعباده حين نزول الشدائد والمصائب، ولو تفكّر الإنسان بأصحاب الأسقام والأمراض والابتلاءات لظنّ أنهم في شدة تنوء بحملها الجبال، ولكنّ الله ﷻ يلهمهم الصبر عليها، ويثيبهم الأجر على الثبات في المحن، ويسخّر من الناس من يعينهم ويواسيهم في مصابهم، فينالون الثواب والأجر في الدنيا والآخرة وعن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» متفق عليه.

كما يتجلى لطف الله ﷻ في أصحاب المهن والأعمال الشاقة فيعينهم الله ﷻ عليها ويمنحهم القوة والجلد على الاستمرار فيها، يقول النبي ﷺ: «كل ميسر لما خلق له» متفق عليه.

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

وكم لله من لطفٍ خفيٍّ
يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ
فَفَرَّجَ كُرْبَة القَلْبِ الشَّجِيِّ

وكم أمرٍ تساءُ به صباحاً
وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة بالعَشِيِّ

إذا ضاقت بك الأحوال يوماً
فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

تَوَسَّلْ بالنَّبِيِّ فَكُلّ خَطْبٍ
يَهُونُ إِذا تُوُسِّلَ بالنَّبِيِّ

وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ
فكم للهِ من لُطفٍ خفي

ومن لطف الله ﷻ بالعباد أنه كلّفهم بالعبادات والطاعات على قدر طاقتهم واستطاعتهم، فلم يكلفهم الله سبحانه فوق ما يطيقون، وافترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فقط، وصيام شهر واحد من أصل اثني عشر سنة، وجعل الزكاة ربع العشر مما حال عليه الحول وبلغ النّصاب، وقبِل ﷻ التوبة من خلقه بأيسر ما يكون من نطق لسان وصدق جَنان، وكلّ ذلك من لطفه، فإدراك المسلم لتلك المعاني يدعوه لإعادة النظر في تعاملاته اليومية مع خلق الله، ابتداءً بأسرته ومن يعول وانتهاءً بالناس كافّة؛ فيُحسن إليهم ويرفق بهم، فمن آمن باسم الله اللطيف حريٌّ به أن يكون رفيقاً هيّناً مع خلق الله، ومَن كان كذلك كافأه الله على تخلّقه بذلك الخُلُق بمعافاته من النار، قال رسول الله ﷺ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار ومن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيّن سهل» رواه الترمذي.

بل إنّ إدراك المسلم لتلك المعاني يدعوه لتقديم دين الله للخلق كافة بأبهى الصور وأرقى المسالك والطرق، بما ينضوي عليه ذلك الدين من عقيدة وشريعة وأخلاق وقيم تنظر بعين الإحسان والرفق لكل مخلوقات الله.

الخطبة الثانية

ومن معاني أن (الله لطيف بعباده) أنه تبارك ﷻ خفيُّ الإحسان بالخلق، إضافةً لرفقه بهم في الإحسان إليهم، فكم صرف الله عن عبده مالاً أو منصباً رحمةً به؛ لئلا ينال ذلك من دينه، أو قد يبتليه ويمتحنه ليُرقّيه المنازل العالية، فيظلّ العبد حزيناً على المنع أو الابتلاء، ولو علم ما حماه الله منه أو ما ابتلاه به لحمد الله وأثنى عليه، يقول ﷻ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 216.

قال رسول الله ﷺ: «إنّ الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبّه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب؛ تخافون عليه» رواه الإمام أحمد.

وضرب لنا الله ﷻ في أروع الأمثلة في قصة سيدنا يوسف على لطف الله ﷻ الخفي الذي يرافق عباده الصالحين في محنتهم وابتلاءاتهم، فيوسف عليه السلام تحفظه عناية الله ﷻ في غيابة الجبّ بعد أن تخلى عنه أهله وإخوته، ثم يُرسل الله ﷻ له قافلة تشتريه ثم تبيعه في سوق العبيد، ثم يحفظه الله ﷻ أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وتحيطه عنايته سبحانه وهو مقيم في ظلمات السجن، حتى يشتد عوده، وتكتمل نشأته ويستوي على سوقه، وقد هيأه الله ﷻ لمهمة عظيمة، فأخرجه الله ﷻ بعد ذلك فيجمع له شمله بعد البعد والغربة، ويقلده مفاتيح قلوب الناس وعقولها بعد سنين السجن الطويلة، وليصير عزيز مصر وسيدها بعد قيد العبودية، عندها يستذكر يوسف عليه السلام مراحل حياته ولطف الله ﷻ به في جميع أطوارها.

قال الله ﷻ ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ يوسف: 99–101.

والحمد لله ربّ العالمين..

أضف تعليق

error: