خطبة: كرامة الإنسان في الإسلام — مكتوبة

خطبة: كرامة الإنسان في الإسلام — مكتوبة

أيها الفُضلا الأكارم؛ أتيناكم ومعنا خطبة الجمعة المكتوبة هذه؛ والتي تحمل عنوان: كرامة الإنسان في الإسلام. تلك التي نسوقها لكم كاملة —باستثناء الدعاء الذي تركنا لكم حرية اختياره— لتكون هي موضوع خطبة الجمعة القادمة بمشيئة الرحمن ﷻ.

مقدمة الخطبة

الحمد لله، ثم الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه الكريم ﷻ وعظيم سلطانه الكبير. الحمد لله الكريم المتعال الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الحمد لله ﷻ القائِل في كتابه العزيز ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.

وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن النبي المختار محمدا رسول الله، شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل دينه هو الأظهر، وشانئه هو الأبتر. فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا صاحب المقام المحمود، ويا حامل لواء الحمد يوم القيامة، وعلى آلك وأصحابك الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الخطبة الأولى

خلق الله ﷻ الناس بقدرات متفاوتة للابتلاء والامتحان، وجعل التفاضل بين البشر عند الله ﷻ يقوم على أساس التقوى، والقلب هو محطّ نظر الربّ ﷻ، والإسلام هو الدين الربّاني المتكامل الذي تتجلى فيه أعظم درجات الرحمة الربانية، وهو دين شامل لجميع مناحي حياة الإنسان، منظِّم لجميع مكوناته الاجتماعية، ومن هذه المكونات الرئيسية الأشخاص ذوي الإعاقة، وقد أولت الشريعة الإسلامية هذه الفئة الرعاية والعناية الخاصة فشرعت الأحكام لضمان حقوقهم وكرامتهم في المجتمع.

لقد أمرنا الله ﷻ أن ننظر إلى الإنسان بعين الكرامة التي اختصه الله ﷻ بها مهما كان لونه أو جنسه، أو دينه، أو شكله. فقال ﷻ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.

وهذه الكرامة تقتضي عدم التمييز والتفرقة بين البشر جميعا، ومن الكرامة الإنسانية أن الله ﷻ خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ قال ﷻ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.

وهذا الكمال البديع في الخلق، والاعتدال في التقويم، لا يقتصر على بنية الإنسان الجسدية، أو مقوماته المادية، بل هو جزءٌ بسيط من أدوات الإنسان لعمارة وإدارة هذا الكون ولكن الله ﷻ ميّز الإنسان بما يجعله مؤهلاً للقيام بحمل أمانة المسؤولية جسدياً ونفسياً ووجدانياً وسخّر له جميع عناصر الكون، وجعله متحكماً فيها بقدر تأهيله وعلوِّ همته، لذلك فإن الله ﷻ لم يجعل التفاضل بين الناس بناء على أجسادهم و صورهم، ولكنه ﷻ ينظر إلى قلوب العباد وما فيها من تقوى، وما قدمه الإنسان من عمل بحسب وسعه وطاقته واجتهاده فيما أتاه الله ﷻ من مؤهلات، يقول النبي ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم » ~ صحيح مسلم.

فمكانة العبد عند الله ﷻ، هي بمقدار علو همّته واجتهاده، وعزّة نفسه وتقواه، فكم من صحيح الجسد، مكتمل الأعضاء نجده سقيم القلب، يسعى بالإفساد في الأرض، وكم من الأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية، نجده قد أفاد البشرية وكان سبباً في نشر الخير والعلم، بل كان رائداً على مستوى العالم، لذلك فإن الله ﷻ قد نسبَ الإعاقة في القرآن الكريم، إلى القلوب لا إلى الأجساد، وأضاف النقص إلى النفس لا إلى الأعضاء، فقال ﷻ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

لقد أخبرنا الله ﷻ في كتابه الحكيم بأن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن الإنسان فيها يسير في رحلة ملؤها الاجتهاد والتعب والكدّ، فقال ﷻ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، قال ﷻ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. لذلك ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى ما يصيبه من نعمةٍ أو ابتلاء في جسده أو ماله أو نفسه فالله ﷻ يُعطي الأجر والثواب لمن صبر على الابتلاء وحمد الله ﷻ في كل أحواله، وهذا رسولنا يُبين أنه من ابتلي بشيء في جسده كان له جزاء صبره الجنة، قال ﷺ: ” إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ” يريد: عينيه” ~ صحيح البخاري.

وقد أرشدنا النبي ﷺ أن الإعاقة والعجز عن أداء المهام إنما هو وهمٌ في عقول المتكاسلين، فكان ﷺ وهو أكمل الناس خلقاً وخُلقاً، يستعيذ بالله ﷻ في دعائه من آفة خطيرة وهي آفة ﴿العجز﴾ فكان ﷺ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» ~ متفق عليه.

وبالتالي فإن العاجز في مفهوم الإسلام، ليس من عجز عن الحركة، أو الإبصار، أو السمع، أو غيرها مما ابتلاه الله من أنواع الابتلاء وإنما العاجز هو من قصرُت همته، وعاش في الأوهام والأماني والخيالات حتى وإن كان صحيح الجسد، والعاجز هو من كانت نفسهُ مريضة كسولة، لا تقوى على حمل التكاليف الشرعية، بل عجزت عن عمارة الأوطان والإنسان، وأما صاحب النفس الزكية، والهمّة العالية فقد مدحه النبي ﷺ، بأنه إنسان كيّس يحبه الله ﷻ ورسوله، يقول النبي ﷺ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ~ صحيح مسلم.

لقد أولت الشريعة الإسلامية هذه الفئة الرعاية الخاصة، فاعتبرت رعايتهم من فروض الكفايات التي ينبغي على الأمة أداؤها من خلال المؤسسات المتخصصة، وأمرنا أن نعاملهم بالحُسنى، فشرع لهم من الحقوق ما يكفل لهم حياةً ملؤها العزة والكرامة في ظلّ المجتمع الإسلامي، ونهانا عن التمييز بينهم وبين باقي أفراد المجتمع، وقد أنزل الله ﷻ سورةً كاملة في القرآن الكريم، لبيان أهمية هذه الفئة في المجتمع، وعاتب الله ﷻ نبيه الكريم في الأعمى الذي جاءه ليتعلم منه، وعلى الرغم من أنّ ذلك الأعمى لم يرَ انشغال النبي ﷺ عنه، إلا أنّ الله ﷻ أنزل في ذلك الموقف آيات من القرآن الكريم، ليثبت حقّ ذلك الأعمى في أخذ فرصته في التعليم، وحقّه في الإرشاد من النبي ﷺ، فقال ﷻ في تلك الحادثة: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.

بل إن نظرة الإسلام إلى ذوي الإعاقة لم تقتصر على إعطائهم تلك الحقوق الإنسانية في الحياة والتعليم والعيش الكريم، بل تجاوزت ذلك إلى استثمار كفاءاتهم، باعتبار أنهم أصحاب همم عالية، وجهود متميزة تصنع أمجاد الأمة وتُسهم في رقيها، بما يمتلكونها من كفاءات لا يملكها غيرهم، ومهارات جديدة تكونت لديهم وقدرات تنامت عوضتهم عما أصابهم، فحرص الإسلام على إدماج هذه الفئة المهمة في المجتمع، واستثمار طاقاتهم، بل إنهم قد تولوا أرفع المناصب في زمن النبي ﷺ.

فهذا عبد الله بن أم مكتوم رضي الله ﷻ عنه وكان رجلاً كفيف البصر، ولكنّه كان متفتح البصيرة، قلبهُ ممتلئٌ بنور الله ﷻ، وقد رأى فيه النبي ﷺ هذه الكفاءة التي عوضته عن نعمة البصر، فاستثمرها في خدمة المجتمع بعد أن هيأه التهيئة الصحيحة، وتلقى التأهيل الصحيح، فحين أراد عبد الله بن أم مكتوم أن يعتذر عن الحضور إلى الصلاة في المسجد بسبب عدم وجود من يقوده إلى، فقال للنبي ﷺ: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال: «فأجب» صحيح مسلم.

لقد أراد النبي ﷺ أن يستثمر تلك الكفاءة بالتأهيل والتدريب المناسب، وبعد فترة وجيزة، أصبح عبد الله بن أم مكتوم مؤذّن النبي ﷺ الذي يعلم المسلمين بأوقات الصلوات، بل إن النبي ﷺ كان يستخلفه على المدينة كلّما خرج في سفرٍ، مما يدل على علو مكانةٍ هذا الرجل وكفاءته بين الناس.

وهذه أيضًا خطبة: إكرام الجار وحقوق الجيران

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

عباد الله: إن من رحمة الله ﷻ بالأشخاص ذوي الإعاقة أنه خفف عنهم بعض الواجبات التي يصعب عليهم إنجازها جسدياً، كالجهاد بالنفس في سبيل الله ﷻ، وترك لهم أبواب الجهاد الأخرى مفتوحة، فقال ﷻ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾. ولكنه مع ذلك لم يغلق الأبواب أمامهم ولم يمنعهم من حقّهم في شرف المحاولة، وأذن لهم بذلك حسب قدرتهم واستطاعتهم.

وقد ورد من سيرة النبي ﷺ أن عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رضي الله عنه كان رجلاً أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، فأراد أن يغزو مع النبي ﷺ ولكن أبناءه منعوه فأتى إلى النبيِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَنِيَّ هَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ، وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُسْتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الْجِهَادَ “. وَقَالَ لِبَنِيهِ: ” وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدَعُوهُ لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ “. فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا” ~ سنن البيهقي.

هذا وقد أمرنا الإسلام في رعايته للأشخاص ذوي الإعاقة مراعاة حاجاتهم النفسية، من خلال التفاعل معهم وجبر خواطرهم، وتمييزهم إيجابياً في المجتمع، جاء الصحابي عتبان بن مالك رسولَ الله ﷺ ـ وكان ضريراً ـ فقال وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فذهب النبي ﷺ إلى بيته وقال له: أين تحب أن أصلي من بيتك، قال فأشرتُ إلى ناحية من البيت فقام رسول الله ﷺ فكبر فقمنا فصفَّنا فصلى ركعتين ثم سلم” ~ متفق عليه.

إن هذا الاهتمام، الذي أمرنا به الإسلام تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة باعتبارهم جزءاً مهماً في المجتمع، ليعبر عن ذوق رفيع جاء به الإسلام ليرتقي بالبشر إلى أعلى مراتب الإنسانية، وهكذا يسود التراحم والتكافل بين جميع فئات المجتمع، ويبقى كلّ فرد من أفرادها عوناً وسنداً لأخيه، وبهذا تتكامل قوة المجتمع، ويُستفاد من جميع الكفاءات والخبرات فيه وفي بلدنا هذا ولله الحمد والتوفيق يوجد مؤسسات رائدة تُعنى بهذه الفئة وفي مقدمتها المركز الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وإلى هنا —أيها الخطباء والأئمة الأكارم— قد وصلنا إلى نهاية صفحتنا لهذا اليوم؛ والتي احتوت على خطبة عن كرامة الإنسان في الإسلام. وذا أردتم المزيد من الخطب المُشابهة، قد تحبون الاطلاع على خطبة: أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم. ونسأل الله الحليم الكريم ﷻ أن ينفعنا —وكل من مَرَّ هنا عبر صفحات موقع المزيد.كوم— بكل هذه الخطب والدروس المباركة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top