خطبة عن ذنوب الخلوات

خطبة عن ذنوب الخلوات

تحدَّثنا من قبل عن هذا الموضوع في عِدَّة مقالات؛ لكننا هنا بصدد تقديم خطبة عن ذنوب الخلوات تحمل من الوعظ والإرشاد الكثير. وهي —كالعادة— مكتوبة، مشكولة الآيات، مُدقَّقة المحتوى والفقرات، ومُشتملة على الأحاديث النبوية وأقوال السلف والصالحين.

لا تفوتكم هذه الخطبة المبارَكة عن ذنوب الخلوات، أو معصية السر. وتابعونا للمزيد من الخطب المنبرية المتميّزة.

مقدمة الخطبة

إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.

أمَّا بعد… فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ﷺ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.

أيُّها المؤمنون.. اتَّقوا الله حقّ تقاته، وأحسنوا إنَّ الله يحث المحسنين، وتوبوا إلى الله جميعًا فإنَّكم إليه راجعون.

الخطبة الأولى

عباد الرَّحمن، روى مسلمٌ في “صحيحه” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ —رضي الله عنه—، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ” هذا الحديث جاء ليبين أنَّ الناس لا يخلون من الذنوب بدليل أنَّ الله لم يذهب بهم، فإنَّ الله لم يخلقنا معصومين ولم يطالبنا بذلك.

لكن هذا لا يحمل الإنسانَ على الاسترسال في اقتراف الذنوب، وليعلم أنَّ له ربًّا يأخذ بالذَّنب ويغفر لمن يستغفر، ومن الذنوب ذنوب الخلوات، التي يقول الله فيها ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر].

قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسًا مع القوم فتمرُّ المرأةُ فيسارقهم النظر إليها، وعنه قال أيضًا: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره؛ فإذا رأى منهم غفلة تدسَّس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره. وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه. وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله ﷻ.

فذنوب الخلوات: يُعني بها انتهاكُ حرمات الله ﷻ بعيدًا عن أنظار الناس وهي الخَلوة الحقيقية. أو يكون بعيدًا عن أنظار الناس الذين يعرفونه وهي الخلوة الحكمية.

جاء في “سنن ابن ماجه” بسند جيد من حديث ثَوْبَانَ —رضي الله عنه—، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قَالَ: “لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا” قَالَ ثَوْبَانُ —رضي الله عنه—: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أّلَّا نكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأخُذُونَ مِنَ اللِّيْلِ كَمَا تأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا”.

أي أنه لا يحمل في نفسه تعظيمًا لحُرمات الله، ولكنَّه يتجمّل أمام الناس، وهو في الباطن مصرٌّ على فعله، مقيم على معصيته، غير خائفٍ من العذاب.

وهذا لا يتعارض مع قوله ﷺ: “كُلُّ أُمَّتِي مُعَافّى إِلَّا المُجَاهِرِينَ” فالمُستتر بالمعصية الخائف من ذنبه، وهو مشفقٌ من عذاب الله، وليس مستهينًا بحرمة المعاصي أهون من المجاهر بها، فهذا ينبغي له ان يستتر بستر الله، وأن يبادر إلى التوبة الصادقة.

ولمقترفي ذنوب الخلوات ثلاثة أحوال:

  1. النفاق، وهو معروف، فالمنافق له حالٌ في الظاهر وحالٌ في الباطن مختلفين، والمنافقون من أخبث خلق الله تَعَالى وأبغض خلقه إليه، فهو عبدُ هواه.
  2. الرياء، فهم لا يعملون أعمالًا يبتغون بها وجه الله، فالمرائي يهتم بالثناء من الناس. وهو في خلواته يتّصف بالكسل في الواجبات، وأحيانًا يترك الواجبات ويفعل المحرمات.
  3. اقتراف ذنوب الخلوات بسبب ضَعف الإيمان، وضعاف الإيمان أوتوا من جهة شهواتهم.

وقد نهى اللهُ ﷻ انتهاك حرماته سرًّا، ونهى أيضًا عن هتك ستره بأن يجاهر بما قد عصى الله ﷻ به سرًّا، لقوله ﷺ: “كُلُّ أُمَّتِي مُعَافّى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْه”.

فالمقصود من حديث “أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا” أنَّ هؤلاء القوم لا ينزجرون عن المحارم إلَّا مراعاةً لأعين الناس فقط، فليس لهم واعظ إلا نظر الناس إليهم؛ أي: أنَّ فعلهم فيه الرياء –والعياذ بالله- فيصير هباءً منثورًا.

وقال أحدهم: هل عرفت إذن ما هي النسّافات؟ إنها ذنوب الخلوات؛ لا تُبقي طاعة للإنسان ولا حسنة في الميزان إلا نفستها، وإن كان العدل أن توافق السريرة العلانية، والجَوْر أن تكون السريرة أخبث من العلانية، فإن الفضل والكمال أن تكون السريرة أفضل من العلانية. والسريرة هي الباطن.

وقال ابن القيم رحمه اللهُ: أجمع العارفون بالله على أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات.

واسمَعُوا قول الله ﷻ أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [المُلك].

قال سحنون رحمه الله: إياك ان تكون عدوًّا لإبليس في العلانية صديقًا له في السر. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيَّاكُم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.

أقولُ قولي هذا، وأستغفر اللهَ العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور الرَّحيم.

وإليكم أيضًا: خطبة: كرامة الإنسان في الإسلام — مكتوبة

الخطبة الثانية

الحمد لله حقَّ حمده، وأشهد ألَّا له إلا الله وحده لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، نشهد أنَّه بلّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصَحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، ﷺ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد؛ فأوصيكم عباد الله بتقوى الله، فلو رأيت أحدًا ممن كان مشهورًا بالالتزام، معروفًا عند أهل الخير والإقدام على حال أخرى، وقد تبدَّل حاله وانتكس = فاعلم أنَّ الأمر لم يكن صدفة ولم يأت بغتة، فإنه بارز الله بالمعاصي في الخلوات حتى تكاثرت على قلبه فظهرت في العلن.

وكان السلفُ رحمهم الله يعرفون صاحب معصية الخلوة، فإنَّ لها شؤمًا يظهر في الوجه ويظهر في ضعف إقباله على الطَّاعات. وأعظم العقوبة عدم الإحساس بها.

قال عبدالله بن عباس —رضي الله عنه— ما: إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيِّئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرِّزق، وبغضةً في قلوب الخلق.

وإنَّ ذنوب الخلوات تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه؛ قال وُهيب بن الورد رحمه اللهُ: اتَّق أن يكون الله أهون الناظرين إليك.

وللذنوب عمومًا ولذنوب الخلوات خصوصًا نتائج وخيمة:

منها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي حياتُه وصلاحه.

والذُّنوب تذهب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كلِّ خير.

والذنوب تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتُضعف وقاره في قلب العبد.

والذُّنوب تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمةٌ إلا لسبب ذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب، قال الله ﷻ: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى].

والذنوب تعمي بصر القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية.

وبسبب الذنوب يُلقي الله سبحانه الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفًا مرعوبا.

والمشكلة أننا نعلم أنه يرانا ونعلم أنه يغضب إن عصيناه وبالرغم من ذلك نقع في الذنب..؟

الجواب عند ابن الجوزي رحمه اللهُ حين قال: تأملتُ وقوع المعاصي من العصاة، فوجدتهم لا يقصدون العصيان وإنما يقصدون موافقة هواهُم، فوقع العصيان تبعًا، فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة؛ فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق، وفضله الزَّاخر. ولو أنهم تأمَّلوا عظمته وهيبته، ما انبسطت كفٌ بمخالفته.

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ الأَزْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِنِي، قَلَ: “أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ ﷻ، كَمَ تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ” وكم هي نصيحة عظيمة ووصية غالية من الرسول ﷺ، فكل من يقبل على ذنوب الخلوات فليتذكر هذا الحديث..

واحذروا يا رعاكم الله أن يضيع أولادُكم بسبب ذنوب الخلوات والولوج إلى مواقع الرذيلة والمجون في القنوات الفضائية أو الأنترنت فهي مخدِّرات إلكترونية قلَّ من يدخلها ويتخلَّص منها..

هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أنَّ الله جلَّ جلاله يحبُّ المصلِّين على نبيِّه ﷺ، وقد أمر بذلك في مُحكَم كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب].

وهنا خطبة: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن

الدعاء

  • اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجه الأنور والجبين الأزهر، وأرْضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، الذين قَضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدلون، وعنّا معهم بعفوك ورحمتِك، يا أرحم الرَّاحمين.
  • اللهمَّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذِلّ الشِّرك والمشركين، واحمِ حَوْزَة الدِّين، وانصُر عبادك الموحِّدين.
  • اللهمَّ أصلِحْنا جميعًا رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، علماءً ووُلاة، يا أكرم الأكرمين.
  • اللهمَّ تقبّل توبتَنَا، وثبِّت حُجّتنا، واغسِل حوبتنا، واغفر زلَّتنا، وأَقِلْ عثرتنا يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الرَّحمن ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النَّحل]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، ولَذِكْرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

وأقِـم الصـلاة..

كانت هذه —يا أفاضِل— خطبة عن ذنوب الخلوات؛ أو كما يسميها البعض [معصية السر]. وإن كنتم بحاجة للمزيد؛ فهذه أيضًا خطبة عن مراقبة الله ﷻ. ونسأل الله الحليم الكريم ﷻ أن ينفعنا وإياكم بكل هذه الخطب.

أضف تعليق

error: