خطبة عن فضل إصلاح ذات البين – مكتوبة «كاملة، بالعناصر»

خطبة عن فضل إصلاح ذات البين – مكتوبة «كاملة، بالعناصر»

عناصر الخطبة

  • إصلاح ذات البين مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو منهج الأنبياء والمرسلين وعباد الله المتقين.
  • الإصلاح يختص بالأفعال وإزالة النفار بين الناس –وخاصة في هذه الأيام– واجب على العقلاء.
  • إصلاح ذات البين من أهم التدابير الوقائية التي تحمي المجتمع من الفرقة والتشتت وتحمي أفراده من النزاع والاختصام.
  • إصلاح ذات البين ينبغي أن يكون قائماً على معاني العبودية لله ﷻ في سبيل الحفاظ على تماسك المجتمع وأخلاقه السامية.
  • من مقاصد الشريعة الإسلامية إصلاح ذات البين لأن فيه مصالح الأنام لإعمار الكون.
  • الدعوة إلى إصلاح ذات البين في الأسرة والمجتمع والعالم فيها الأمن والرفاه لتخليص الإنسان من الظلم.

الخطبة الأولى

جعل الله ﷻ اجتماع الناس وتآلفهم وتعاونهم على الخير والبر والطاعات والابتعاد عن كل ما يؤدي إلى الاعتداء على الآخرين، من مقاصد الشريعة الإسلامية العامة فقال الله ﷻ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة:2.

فوقوع العدوان والإثم بين الناس يؤدي إلى التباغض والتناحر والتنافر، فيتفكك المجتمع وتنهدم أركانه، وقد قال النبي ﷺ: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا» ← ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» ← صحيح مسلم.

وقد امتنّ الله ﷻ على المؤمنين أن ألّف بين قلوبهم وجمع كلمتهم بعد أن كانوا في الجاهلية متناحرين متخاصمين قال ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ آل عمران: 103.

وقد حرصت الشريعة الإسلامية على دوام استقرار المجتمع المسلم والحفاظ على أمنه المجتمعي ليبقى مجتمعاً قوياً عزيزاً في وجه الطامعين والساعين للنيل من ثوابته ومقدراته، متخذةً عدداً من التدابير الوقائية التي تعصم المجتمع من الفرقة والتشتت وتحمي أفراده من النزاع والاختصام، فحرصت على جمع القلوب وتعزيز قيم الأخوة والرحمة بين الناس فأمرت بإصلاح ذات البين ورأب الصدع بين المتخاصمين قال ﷻ: ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ الأنفال:1.

كما أمرت الشريعة بإفشاء السلام، وعيادة المريض، وتفقد أحوال المسلمين، والتصدق على فقرائهم، وإقامة العدل، ورفع الظلم عن الناس، قال ﷻ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ النساء: 114.

كما نهت الشريعة الإسلامية عن الكذب والغيبة والنميمة وإساءة الظن لأنها تؤدي إلى فرقة المجتمع وتقويض بنيانه.

وقد وجّه الله ﷻ عباده إلى ما ينظم علاقاتهم ومعاملاتهم فإن اهتدوا بها لم يقع بينهم خلاف أصلا بل كانوا «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» ← صحيح مسلم.

وقد لخص النبي ﷺ هذا المنهج الرباني بقوله: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» ← سنن النسائي.

فالباحث عن النموذج الراقي لعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان سيجد في هذا الدين إنموذجاً ومثلاً أعلى فيه مئات الصور القائمة على تعزيز مبدأ الأخوة والمحبة والحرص على إصلاح ذات البين بين الناس والدعوة إلى رأب الصدع وحل الخلافات، بل هو أمر الله ﷻ للمؤمنين الصادقين ومبدأ من مبادئ الإسلام الراسخة يقول ﷻ: ﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ الحجرات:10.

كما جعل الله ﷻ إصلاح ذات البين من أجلّ مراتب العبودية وأسماها بل ربما فاق أجرها ثواب المصلي والصائم قال ﷺ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قال، إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» ← سنن أبي داود.

وذلك لأن إصلاح ذات البين هو العلاج الناجح لانحرافات الطبيعة البشرية وما يعتريها من انحرافات عن أصل ربانيتها من أمراض قلبية تعود في مجملها إلى غياب المعاني الإيمانية عن القلوب وضعف استحضارها لحقيقة الوجود وانطفاء شعورها بالمسؤولية بين يدي ربها عز وجل، وإصلاح ذات البين هو العلاج لأمراض القلوب بين الناس من حقد وحسد وكره، حتى أن الإسلام الذي نهى عن الكذب وعدّه من الكبائر أجازه في حدوده الضيقة لمن أراد الإصلاح بين الناس وتطييب نفوسهم، وإزالة الشحناء والبغضاء، فقال النبي: «لا أعده كاذبا، الرجل يصلح بين الناس، يقول: القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول: في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها» ← سنن أبي داود.

وذلك لأن إصلاح ذات البين ينزل منزلة الضرورة في المجتمع لأنه الحامي للمجتمع من وقوع الجرائم وأذية الآخرين وفساد الدنيا والدين، لذلك سمى النبي ﷺ فساد ذات البين بالحالقة، فقال: «فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» ← سنن أبي داود.

وقد أخبر النبي ﷺ بأن سبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما هما سيدا شباب أهل الجنة، وأشار النبي ﷺ إلى أن الحسن رضي الله عنه نال هذه المرتبة بإصلاحه بين الناس، فقال ﷺ: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ← صحيح البخاري.

فتحقق ما أخبر به النبي ﷺ وكان إصلاح ذات البين من الحسن رضي الله عنه تطبيقاً عملياً للأمر الإلهي: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ الحجرات: 9، فكان إصلاح ذات البين بين الناس هو السبب في نيل المراتب العالية والسيادة في الدنيا والآخرة.

عباد الله: إن شيوع الخلاف بين الناس وترك عبادة الإصلاح بين الناس هو تحقيق لإرادة الشيطان في نشر الخصومة والبغضاء والفرقة في الأمة، يقول ﷻ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾ المائدة:91، وهو مدعاة إلى تفريق الأمة وتشرذمها وتداعي أعدائها عليها وهدم لحضارتها، فعلى المسلم الحرص على مقاومة وساوس الشيطان والوقوف ضد إرادته امتثالاً لإرادة الله ﷻ القائل: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ الأنفال: 46.

كما أن سد الثُّغر وإصلاح الخلل يسد على الأمة أبواب العدى وينهض بها قال ﷻ ﴿لن يضروكم إلا أذى﴾ آل عمران:111.

لذلك أولى النبي ﷺ العناية والأهمية البالغة في إصلاح ذات البين، حتى لا تبقى ثغرة يدخل منها أعداء الأمة للكيد منها، فكان ﷺ يعقد المجالس لإصلاح ذات البين، ولا تشغله قيادة الدولة ومسؤولياتها العظيمة، من إصلاح ذات البين لأنه يعلم ﷺ أن مصدر قوة الدولة يأتي من داخلها ومن تماسك بنيان أفرادها، فكان ﷺ إن بلغه أن هناك خلاف أو بغضاء وقعت بين المسلمين، كان يفرغ وقته وجهده وطاقته للإصلاح بينهم.

فروُي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن رجلا مر على قوم فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: والله إني لأبغض هذا في الله، فقال أهل المجلس: بئس والله ما قلت، أما والله لننبئنه، قم يا فلان، رجلا منهم، فأخبره، قال: فأدركه رسولهم، فأخبره بما قال، فانصرف الرجل حتى أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، مررت بمجلس من المسلمين فيهم فلان، فسلمت عليهم فردوا السلام، فلما جاوزتهم أدركني رجل منهم فأخبرني أن فلانا قال: والله إني لأبغض هذا الرجل في الله، فادعه فسله علام يبغضني؟ فدعاه رسول الله ﷺ فسأله عما أخبره الرجل، فاعترف بذلك وقال: قد قلت له ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «فلم تبغضه؟» قال: أنا جاره وأنا به خابر، والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه الصلاة المكتوبة التي يصليها البر والفاجر، قال الرجل: سله يا رسول الله: هل رآني قط أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها، أو أسأت الركوع والسجود فيها؟، فسأله رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: لا، ثم قال: والله ما رأيته يصوم قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر؟، قال: يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه، أو انتقصت من حقه شيئا؟، فسأله رسول الله ﷺ فقال: لا، ثم قال: والله ما رأيته يعطي سائلا قط، ولا رأيته ينفق من ماله شيئا في شيء من سبيل الله بخير، إلا هذه الصدقة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فسله يا رسول الله هل كتمت من الزكاة شيئا قط، أو ماكست فيها طالبها؟ قال: فسأله رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: لا، فقال له رسول الله ﷺ: «قم إن أدري لعله خير منك» ← مسند الإمام أحمد.

فهذا الحديث فيه إشارة إلى اهتمام النبي ﷺ برأب الصدع وإصلاح ذات البين بين المسلمين وتنقية النفس من البغض والكره، فلا يجوز وقوع الفرقة بين المسلمين حتى وإن كان الأمر في ظاهره طلب مرضاة الله ﷻ كما فعل الصحابي فإنه لم يبغض أخاه إلا لتقصيره في أداء السنن والعبادات في ظاهر الأمر، وفيه كذلك وجوب إحسان الظنّ بالمسلمين، وعدم رميهم بالتهم دون وجه حق ودون التأكد من حقيقة حالهم.

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم بتقوى الله العظيم فأن التقوى جماعُ الخير كله واحرصوا رحمكم الله على الإصلاح وإعانة المصلحين لقوله ﷺ «وكونوا عباد الله إخوانا» ← متفق عليه. يصلح الله لكم أعمالكم وأولادكم بتقواكم وصلاح قلوبكم قال ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب: 70–71.

لقد يسر الله عباداً صالحين ومصلحين وظفوا طاقتهم وفتحوا بيوتهم وسخروا إمكانياتهم من أجل الإصلاح بين الناس، يقول النبي ﷺ «إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» ← سنن ابن ماجه.

فهؤلاء النفر المصلحون عندما انصرف الناس إلى أعمالهم وخصوصياتهم انصرفوا هم إلى خدمة الناس ورعاية شؤونهم، يقول عنهم النبي ﷺ: «هم الآمنون يوم القيامة» ← معجم الطبراني.

عباد الله : إن انبراء مجموعة من الخيرين من أبناء أمتنا للإصلاح بين الناس يدل على الطبيعة الطيبة لأبناء هذا البلد سُقوا الطيب مع لبانهم وتعلموها في مجالس أبائهم وأجدادهم وصار الإصلاح جزءاً من كيانهم ومنهجاً في حياتهم رعاهم الله كما رعوا مصالح الناس وأثابهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار.

فعلى من يسّره الله ﷻ للإصلاح بين الناس أن يكون عارفا بمداخل القلوب وقوانين الإصلاح وأعراف الناس وعاداتها فيوظفها توظيفاً صائباً يوحّد القلوب ويردّها عن غفلتها بعيداً عن الهوى والمصلحة ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المائدة:8.

والحمد لله رب العالمين..

المزيد من الخطب المُختارة

وفقني الله ﷻ وإياكم لكل خير.

أضف تعليق

error: