خطبة عن الأشهر الحُرم ﴿فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم﴾

خطبة عن الأشهر الحُرم ﴿فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم﴾

عناصر الخطبة

  • الأشهر الحُرم عند الله ﷻ أربعة، ثلاثة متواليات هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. العمل الصالح فيهن أعظم أجراً، والظلم فيهن أعظم من الظلم في سواهنَّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً.
  • التحذير من ظلم النفس في هذه الأشهر الحرم، ومن المعاصي والآثام بكل اشكالها وصورها.
  • هذه الأشهر الحرم غنيمة للمؤمن للتزود بالأعمال الصالحة ففيها خير أيام العام، كأيام الحج الأكبر ويوم عرفة، وفيها شهر الله المحرم الذي كان النبي ﷺ يحرص على صيامه، وفيه يوم عاشوراء الذي يكفر الله ﷻ بصيامه سنة ماضية.
  • لهذه الأشهر الأربعة مكانة رفيعة عند الصحابة رضي الله عنهم، فهي محطات يراجع فيها المسلم صلته بالله ﷻ، وعلاقته بالآخرين.
  • التمسك بدعاء سيدنا يونس عليه السلام يكشف الغمة عن الأمة: ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ الأنبياء: 87.

الخطبة الأولى

نتفيأ في هذه الأيام المباركة في ظلال شهر ذي القَعدَة وهو أول الأشهر الحُرم التي ذكرها النبي ﷺ في قوله: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا؛ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان» ← صحيح البخاري.

وقد ورثت العرب قبل الإسلام عن سيدنا إبراهيم عليه السلام تعظّيم هذه الشهور وتميزها على غيرها، فكانت تطفئ فيها نار الحروب والفتن، وتسود أجواء الألفة والمودة، وتبدأ فيها مناسك الحج والتضرع إلى الله ﷻ بالتوبة والمغفرة، فسمي ذو القَعدَة بذلك لأن العرب كانت تقعد فيه عن قتال بعضها، وتستمر هذه الهدنة بينهم في ذي الحجة احتراماً لأداء مناسك الحج، وكانت تحرم القتال في محرم ليتيسر للقبائل الرجوع إلى بلدانها آمنة بعد الحج، وكانت تعقد الصلح في رجب فلا تتقاتل حتى سُمي بشهر رجب الأصمّ، فلا يسمع فيه صوت رمح أو سيف، وسمي كذلك بشهر رجبٍ الأصم، لأن رحمات الله ﷻ تصب على الناس صباً في هذا الشهر.

وقد كان لشهر ذي القَعدَة نصيبه وحظّه من الفضل الذي قرره الله ﷻ في القرآن الكريم في قوله ﷻ: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ البقرة: 194، فالآية نزلت في بيان عزة المسلمين وإظهار فضل الله عليهم بأنه أعادهم إلى بيته الحرام معتمرين بعد منعهم من الاعتمار يوم صلح الحديبية من العام الفائت، فكانت عمرتهم في شهر ذي القعدة، قضاءً لعمرتهم عن عامهم الفائت في نفس الشهر.

وهذه الأشهر الحرم إنما جاءت بمزيد فضل واختصاص من الله ﷻ منذ خلق السموات والأرض وأمرنا بتعظيم أيامها ولياليها والاجتهاد في الطاعات والابتعاد عن المعاصي والمنكرات التي تلقي به في مهاوي الردى، وتقتحم به المخاطر والشبهات، وتبحر به في لجج الظلمات؛ فقال جلّ وعلا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة : 36].

قال قتادة: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء”.

وذكر الله ﷻ التحذير من ارتكاب المعصية في هذه الأشهر بقوله ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ إشارة إلى أن المجتمع في أخوته وتماسكه وتكاتفه، جسد واحد، وأمة واحدة، فأصبح مجموع الأمة كالنفس الواحدة، والعبث بأي مكون من مكوناته هو تهديد للأمة بكاملها، يقول النبي ﷺ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ← صحيح مسلم.

لذلك ينبغي على المسلم أن يحافظ على حرمة هذه الشهور وأن يلتزم الأمر الإلهي بأن يصون نفسه عن ارتكاب المعاصي التي تؤدي به إلى المهالك، ويزداد خطر هذه المعصية، إن تعدى إثمها إلى المجتمع، فإن الإنسان إن أسرف على نفسه فإن ظلمه يكون على نفسه وحسابه على الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له، ولكن إن تعدى الإنسان بظلمه إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وأدى ذلك إلى ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل بالغش والاحتيال، وسفك دمائهم دون وجه حق، وتفتيت بنية المجتمع بنشر الإشاعات الكاذبة، فإن هذا قد ارتكب ظلماً في حق المجتمع بكامله، ولذلك ليس بمستغرب أن ترتبط حرمة هذه الشهور بحرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.

وقد وقف النبي ﷺ في هذه الأشهر خطيباً بالناس يوم عرفة في حجة الوداع مخاطباً الناس «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب» ← متفق عليه.

كما قرّع الله ﷻ المشركين قبل الإسلام لتلاعبهم وعبثهم بأحكام الله ﷻ في هذه الأشهر الحُرم ليسفكوا الدماء ويمزقوا الأرحام ويأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، فعدّ الله ﷻ ذلك زيادة في الكفر، لأن فيه طغياناً على الناس وظلماً لهم ومخالفة لأمر الله فكانوا يبدلون مواقيت هذه الأشهر ومواضعها في العام حتى يتسنى لهم التمادي في ظلمهم، فأنزل الله ﷻ فيهم: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ التوبة: 37.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.

يستحب للمسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة الأشهر الحرم كصيام النافلة لما روي عن النبي ﷺ أنه قال لرجل يواصل صومه فلا يفطر أبداً: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ»، فقال الرجل: زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ يَوْمَيْنِ»، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ» ← سنن أبي داود.

وفي هذه الأشهر الحرم يكون الحج إلى بيت الله الحرام وفيه خير الأيام عند الله ﷻ، وهي أيام العشر من ذي الحجة، التي أقسم الله ﷻ بها في القرآن الكريم، فقال ﷻ: ﴿وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ الفجر: 1–2، وفيها يوم عرفة الذي يباهي الله ﷻ فيه الملائكة بالمؤمنين الذين جاؤوا شعثاً غبراً يبتغون فضلاً من الله ورضوان، وفيه كذلك يوم النحر ويوم القرّ وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» ← رواه أبو داود.

لذلك فإن تعظيم الأشهر الحُرم التي عظمها الله ﷻ، فيه دليل على الإخلاص بالعبودية لله ﷻ، فينبغي على المسلم أن يشمر عن ساعد الجد والاجتهاد في عمل الطاعات، وأن يوجه نيته إلى أن تعظيم هذه الأشهر انقياداً واستسلاماً لإرادة الله ﷻ وأمره سبحانه بتعظيمها، فإن في ذلك دليل وبرهان على تمام التقوى، وتعظيم لشعائر الله ﷻ، وقد قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج: 32.

ولا ننسَ دعاء سيدنا يونس عليه السلام الذي يرشدنا إلى طريق الهداية الوارد في قوله ﷻ: ﴿أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ الأنبياء: 87.

والحمد لله ربّ العالمين..

أضف تعليق

error: