مقدمة الخطبة
الحمد لله الأولِ بلا ابتداء، والآخرِ بلا انتهاء، رفعَ السماواتِ بقدرتِه، وبسط الأرضَ بحكمتِه، واصطفى من خلقِه أنبياءَ هداةً، وخَتَمهم بسيدِ الأنبياءِ وسيِّدِ الكائناتِ، محمدٍ ﷺ، رحمةً مهداة، ونعمةً مسداة، أرسله اللهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهرَه على الدينِ كلِّه ولو كره المشركون، فصلواتُ ربي وسلامُه عليه، وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي القاصرةَ المقصّرةَ بتقوى الله، فاتقوا الله في السرِّ والعلن، وراقبوه في القولِ والعمل، فمن اتقاه وقاه، ومن توكّل عليه كفاه، ومن أقبل عليه هداه ورضاه.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: يستذكر المسلمون في مستهل كل عام هجري جديد هجرةَ سيدنا رسول الله ﷺ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والتي كانت إيذاناً ببداية التاريخ الإسلامي المجيد وميلاد أمة الإسلام وانتقالها من حالة الضعف إلى القوة، هذا التحول العظيم الذي نستلهم منه الدروس والعبر في جميع مناحي حياتنا، ومن هذه الدروس:
أولاً: تقدم لنا الهجرة النبوية الشريفة درساً عظيما في التوكل على الله ﷻ، والثقة بنصره ﷻ لعبادة المؤمنين، يقول الله ﷻ: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة: 40، وهذا إعلامٌ من الله أنه سبحانه لا يضيّع عباده، ولا يخذلهم أبداً إذا صدقوا مع ربهم، فقد نصرالله سبحانه نبيه ﷺ على قومه الذين ناصبوه العداء، وكانوا قوماً لُدّاً، وأتمَّ اللهُ نوره على الرغم من شدة عداوة قومه الذين كانوا خَصمين، قال ﷻ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف:8.
ثانياً: تعلمنا الهجرة النبوية الشريفة أن نأخذ بالأسباب ونحسن التدبير، فحسن التخطيط والإدارة سرٌّ من أسرار النجاح بعد توفيق الله ﷻ، وهذا ما فعله رسول الله ﷺ في هجرته الشريفة، فرسول الله ﷺ أخذ بأسباب النصر؛ ففي هجرته ﷺ دفع المال لأبي بكر رضي الله عنه لشراء ركوبة تحمله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، واختار صاحبه الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه ليكون رفيقه في أعظم رحلة عرفها التاريخ ، ويعلمنا رسول الله ﷺ درساً في الأمانة، عندما طلب من علي رضي الله عنه أن يؤدي عنه الأمانات التي كانت عنده ﷺ لأصحابها، ولم يمنعه أذى المشركين من الوفاء بها؛ وما أحوجنا أن نفهم هذه الجوانب المضيئة من سيرته ﷺ ، وتنزيله على واقعنا من أجل الحفاظ على مقدرات البلاد، وأمانات العباد، وأداء ما أمر الله ﷻ بأدائه.
ثالثاً: كان أول ما فعله رسول الله ﷺ حين وصل المدينة المنورة أنه أقام المجتمع على أساس من الأخوة الإيمانية حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وقد أثنى الله ﷻ على المهاجرين والأنصار الذين ضربوا أروع مثلٍ في معنى التكافل والأخوة. يقول الله ﷻ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة:100.
فالمهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم حمايةً لدينهم، والأنصار استقبلوا إخوانهم من المهاجرين وفتحوا لهم القلوب قبل البيوت، واقتسموا معهم الهمّ قبل المال، وتآخت بينهم الأرواح قبل الأجساد، فقامت أمّةٌ توحد الله ﷻ ولا تشرك به شيئاً، وأصبحت حادثة الهجرة المشرفة دافعاً إيمانياً يحفّز المسلمين لتذكر هذه المعاني العظيمة.
ثم شرع رسول الله ﷺ ببناء المسجد ليكون منارة للعلم والمعرفة، ومكاناً للعبادة يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم، فزالت الفوارق بينهم، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، يقول الله ﷻ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات:13،
وبعد ذلك قام رسول الله ﷺ ببيان الحقوق والواجبات بين المسلمين أنفسهم، وبين غيرهم ممن كانوا يسكنون المدينة المنورة آنذاك، على أساس من المواطنة الصالحة والمساواة ليكون المجتمع المدني في عهده ﷺ الأنموذج في التاريخ حتى تقوم الساعة.
رابعاً: ومن دروس الهجرة حب الوطن؛ فقد وقف المصطفى ﷺ على مشارف مكة المكرمة ــ التي وُلد فيها وترعرع ونزل الوحي عليه في أعلى قمة من جبالها ــ وخاطبها قائلا: «ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ» رواه الترمذي.
وهذه الكلمات النبويات المباركات تعلمنا أن نحب وطننا، وأن نحميه بالمهُج والأرواح، لأننا نعيش على ثراه الطهور ونعبد الله ﷻ على أرضه آمنين مطمئنين.
وهذه ⇐ خطبة عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد؛ فيا عباد الله،
الهجرةُ النبويةُ ليست مجرّد انتقالٍ من دارٍ إلى دار، بل هي انتقالٌ من ضعفٍ إلى قوة، ومن ضيقٍ إلى سعة، ومن بلاءٍ إلى رجاء، ومن ماضٍ مثقلٍ بالجراح إلى مستقبلٍ مشرقٍ بالإصلاح.
فيها دروسٌ تتجدد، وعِبرٌ لا تندثر، فيها إيمانٌ لا يتزعزع، وثقةٌ لا تنكسر، وتفويضٌ مطلقٌ للقهّار، وصبرٌ يُثمر النصر والانتصار.
فاتقوا الله رحمكم الله، وتمثّلوا في سيرتكم سيرة الحبيب المختار، واجعلوا من هجرته المباركة نبراسًا يهديكم في ظلمات الحياة، وسراجًا يُنير لكم دروب الطاعة والثبات.
اللهم اجعلنا من السائرين على نهجه، المتبعين لهديه، العاملين بسُنّته، المحبين لشخصه، الحريصين على رضاه، والناصرين لدينه، والمجتمعين معه في دار كرامتك، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
وأقيموا الصلاة.