خطبة «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» بمناسبة الهجرة النبوية

ولا زال للحديث بقيَّة مع خطب الجمعة التي تتحدث عن الهجرة النبوية المشرفة. وهنا نأتيكم بخطبة قصيرة ومتميزة، عنوانها ما قاله رسولنا المصطفى ﷺ لصاحبه أبو بكر الصديق وهُما في الغار «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». ومن هنا نبدأ خطبتنا.

مقدمة الخطبة

الحمد لله جاعل اليسر بعد العسر والسراء بعد الضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد والشكر والفضل والثناء. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أعظم المتفائلين وخير المرسلين والأنبياء، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه، أهل البر والإحسان والتفاؤل والوفاء.

أما بعد، فالتقوى رأس كل فضيلة، وأساس البعد عن كل نقص وعيب، وسر القرب من الله، والوصول إلى كفايته ورضاه ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾.

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون؛ إن من الدروس العظيمة من الحادثة الكبرى، حادثة الهجرة النبوية، التفاؤل، وما أحوجنا إلى التفاؤل! لأن القنوط ينهي حياة الإنسان ويجعلها من غير قيمة، والتفاؤل يجعل الحياة مستمرة، ويأخذ بالإنسان شيئا فشيئا إلى بر الأمان؛ ليكون من السعداء في الدنيا، والفائزين في الآخرة.

وما من إنسان إلا ويمر بما يحزنه ويشق عليه ولو كان نبيا، إلا أن تلك الشدة يعقبها رخاء، وذلك العسر يتلوه يسر، والحزن يأتي بعده الفرح، ولولا تلك الشدائد التي يمر بها الإنسان لما اجتهد في إيجاد الوسائل التي تخلصه من الشدة، فلولا الحر لما اخترع الإنسان طرقا وآلات للتبريد، ولولا البرد لما ابتكر وسائل التدفئة، ولولا هذه الأمراض لما اجتهد في إيجاد الدواء، ولولا الفقر لما بحث عن وسائل الغنى ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾.

ولولا تلك الشدائد التي لقيها النبي ﷺ ولقيها أصحابه، لما تهيأت الأسباب للهجرة الشريفة؛ فكانت تلك الهجرة بداية القوة والانتشار، وإن كان ظاهرها ضعفا، وكان سببها ضعفا وعدم قدرة على الوقوف في وجه الشدائد والمحن التي بقيت تعصف بالنبي ﷺ وأتباعه ثلاثة عشر عاما، حتى استبطأ الرسول والذين آمنوا معه نصر الله، وكيف لا يقولون: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾! وقد صور القرآن ما مر بهم من محن في صورة زلزال فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.

وفي كل هذه الظروف – التي هي أكبر من كل ظروف قد يمر بها إنسان – كان النبي ﷺ متفائلا، مستبشرا بفرج الله القريب، ويبشر المؤمنين بقرب ذلك الفرج؛ فكان ذلك دافعا للمؤمنين إلى الثبات على إيمانهم، والتضحية في سبيل نصرة ذلك الإيمان ووصوله إلى مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان من تفاؤل النبي ﷺ أنه يبشرهم بالأمن وهم في أشد أحوال الخوف، فيقول لأحد أصحابه: «فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله»، قال عدي بن حاتم: “فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله “.

وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه وقد اشتد بهم الأمر: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار»، وتلك هي أخلاق الأنبياء والمرسلين التي أدبهم ربهم بها فأحسن تأديبهم، فقد قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، فالتفاؤل من أخلاق المؤمنين، والقنوط من رحمة الله من صفات القوم الكافرين، وقد قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك القول وقد غاب عنه يوسف عليه السلام سنوات طويلة، إلا أن التفاؤل ما فارقه حتى جمعه الله بولده.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.

وهنا أيضًا: خطبة عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المؤمنين الصادقين.

أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- وانظروا إلى عظيم تفاؤل النبي ﷺ وحسن ظنه بالله، ففي تلك الحال الشديدة -وقد وصل المشركون إلى باب الغار الذي كان فيه النبي ﷺ وصاحبه- يقول النبي ﷺ لصاحبه أبي بكر الصديق وقد حزن خوفا على النبي ﷺ: ﴿لاَ تَحْزَنْ﴾، لله ما أعظمه من تفاؤل! وما أوثق حسن الظن ذلك بالله! أيقال في تلك الحال ﴿لاَ تَحْزَنْ﴾، ولو نظر أحد من المشركين إلى قدمه لرأى النبي ﷺ وصاحبه!

تالله ليس هناك درس في التفاؤل أعظم من هذا الدرس، لا في السابقين ولا في اللاحقين.

ثم يزيده النبي ﷺ ما لا يكون معه إلا اليقين بمعية الله ونصره وتأييده، فيقول له: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، ومن كان معه الله كفاه الله كل شيء ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾، وقال له النبي ﷺ: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما!».

فكان من أمر الله ما حصلت به الكفاية، ووصل النبي ﷺ إلى المدينة المنورة، وسعد منتظروه باستقباله، وكان بعد هذه الحادثة شأن للإسلام والمسلمين؛ ليكون حكم الله الذي لا يُرد ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.

هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

ولا تفوتكم أيضًا: خطبة الجمعة عن الهجرة النبوية.. دروس وعبر في التضحية

أضف تعليق

error: