خطبة: عظيم الدروس المستفادة والعبر المستخلصة من الهجرة النبوية الشريفة

خطبة: عظيم الدروس المستفادة والعبر المستخلصة من الهجرة النبوية الشريفة

الخطبة الأولى

الحمد لله..

يستذكر المسلمون في مستهل كل عام هجري جديد هجرةَ النبي المصطفى ﷺ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والتي كانت إيذاناً ببداية التاريخ الإسلامي المجيد، هذا التحول العظيم الذي نستلهم منه الدروس والعبر في جميع مناحي حياتنا، ذلك لأن الهجرة النبوية الشريفة تعدُّ أصلاً لكل الأحداث الغرّاء في تاريخ الإسلام والمسلمين، وهي فاتحة خير ورحمة للإنسان وللإنسانية جمعاء.

لقد سطع نور الإسلام بعد الهجرة في الآفاق يضيء الدنيا بأنوار النبوة المباركة، فقد انتقل المسلمون من حال الضعف والذلة إلى القوة والعزة، وأخرج هذا الدين العظيم الناسَ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، وأصبح المسلمون أمة واحدة، من دون الناس، باعتصامهم بكتاب الله ﷻ، والتزامهم بسنة نبيهم ﷺ، قال الله ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ آل عمران103.

لقد كانت الهجرة الشريفة مثالاً للتآخي والمحبة والألفة بين المسلمين؛ من المهاجرين والأنصار، فتحققت الوحدة بينهم بأسمى معانيها، وأزيلت الأحقاد والمنازعات التي كانت في الجاهلية، وألف الله بين قلوبهم وأصبحوا على قلب رجلٍ واحد، قال الله ﷻ: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال: 63.

ثم شرع النبي ﷺ ببناء المسجد ليكون منارة للعلم والمعرفة، ومكاناً للعبادة يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم، فزالت الفوارق بينهم، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات:13، وقد أُسس هذا المسجد على تقوى الله وطاعته من أول يوم ابتدئ في بنائه، قال الله ﷻ: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ التوبة: 109، وبعد ذلك قام النبي ﷺ ببيان الحقوق والواجبات بين المسلمين أنفسهم، وبين غيرهم ممن كانوا يسكنون المدينة المنورة آنذاك، على أساس من المواطنة الصالحة والمساواة ليكون المجتمع المدني في عهده ﷺ الأنموذج في التاريخ حتى تقوم الساعة.

إن في الهجرة النبوية الشريفة دروساً تربوية، وعبراً عظيمة، ومن أهمها التوكل على الله ﷻ، والثقة بنصره ﷻ لعبادة المؤمنين، قال الله ﷻ: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة:40.

وهذا إعلامٌ من الله لأصحابَ رسوله ﷺ أنّه المتوكّلُ بنصر رسوله ﷺ على أعداء دينه وإظهاره عليهم، وهذا طريق النصر حيث أشارت الآيات إلى أن الله عز وجل لا يضيّع عباده، ولن يخذلهم أبداً إذا صدقوا مع ربهم، فقد نصرالله سبحانه نبيه ﷺ على قومه الذين ناصبوه العداء، وكانوا قوماً لُدّاً، وأتمَّ اللهُ نوره على الرغم من شدة عداوة قومه الذين كانوا خَصمين، قال ﷻ: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ الصف:8.

كن مع الله تَرَ الله معَكْ
واترك الكلّ وحاذر طمعَكْ

لا تؤمل من سواه أملاً
إنما يسقيك من قد زرعك

عباد الله: إنَّ من عظات الهجرة النبوية الشريفة أن نأخذ بالأسباب ونحسن التدبير، فحسن الإدارة سرٌّ من أسرار النجاح بعد توفيق الله عز وجل، وهذا ما فعله النبي ﷺ في هجرته الشريفة، فالنبي ﷺ أخذ بأسباب النصر؛ حتى يعلمنا مبدأً عظيماً يجب أن لا نغفل عنه في حياتنا، وهو التخطيط؛ ففي هجرته ﷺ دفع المال لأبي بكر رضي الله عنه من أجل شراء ركوبة تحمله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، واختار صاحبه الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه ليكون رفيقه في أعظم رحلة عرفها التاريخ، وهو رضي الله عنه الصاحب في قوله ﷻ ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾.

وطلب من علي رضي الله عنه أن يؤدي عنه الأمانات التي كانت عنده ﷺ لأصحابها، ولم يمنعه أذى المشركين من الوفاء بها؛ فقد علمنا رسول الله ﷺ الأمانة، ونهانا عن الخيانة،لأن رسول الله ﷺ هو الصادق الأمين، وما أحوجنا في هذا الوقت العصيب إلى أن نفهم هذه الجوانب المضيئة من سيرته ﷺ، وتنزيل هذه اللطيفة على واقعنا المَعيش من أجل الحفاظ على مقدرات البلاد، وأمانات العباد، وأداء ما أمر الله عز وجل بأدائه، كل هذا من أجل أن يعلمنا النبي ﷺ مبدأ عظيماً من مبادئ الدين والشريعة، وهو حسن الإعداد والتخطيط، وحسن الاختيار والتدبير.

هذا، وإن للهجرة معنى آخر ؛ ألا وهو هجر الذنوب والمعاصي، وهجر كل طريق يبعدك عن طريق الله سبحانه، قال ﷺ: «لا تنقطِعُ الهجرةُ حتَّى تنقَطعَ التَّوبةُ، ولا تنقطِعُ التَّوبةُ حتَّى تطلعَ الشَّمسُ مِن مغربِها» رواه أبو داود، وقال عليه الصلاة والسلام: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه» رواه البخاري، فالمرء الذي يتوب إلى الله توبة نصوحاً، إنما هو مهاجر إلى الله ورسوله ﷺ، لأنه قد هجر موقع ذنوبه وأسبابها ورحل إلى موقع آخر من التوبة والطهر، حتى يكون أبعد وأنقى وأطهر مما كان.

فالهجرة بهذا المعنى لا تنقطع، ولا ينقطع أجرها وستبقى إلى قيام الساعة؛ وكل واحد منا يستطيع أن يكون مهاجرا إلى الله ورسوله ﷺ، ويحصل على ثواب الهجرة وأجرها الكبير إذا هجر الإنسان من قلبه سيئات الحقد والحسد والاثرة والعصبية، إلى جنات الحب والخير والمودة والإيثار، ويكون المسلم مهاجراً إذا كان بطبعه ودوداً رحيماً رؤوفاً يحب الناس ويحبونه ويجمع شملهم، ويلم شعثهم، ويتمنى لهم الخير كما يحبه لأهله وأبنائه.

ومن دروس الهجرة حب الوطن؛ فقد وقف المصطفى ﷺ على مشارف مكة المكرمة ــ التي وُلد فيها وترعرع ونزل الوحي عليه في أعلى قمة من جبالها ــ وخاطبها قائلا: «ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ» وراه الترمذي.

وهذه الكلمات النبويات المباركات تعلمنا أن نحب وطننا، وأن نحميه بالمهُج والأرواح، لأننا نعيش على ثراه الطهور ونعبد الله ﷻ على أرضه آمنين مطمئنين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.

ولا تنسوا الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه: ﴿أن من واظب عليها يكفى همه ويغفر ذنبه﴾، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”، وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، قال ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الأحزاب:43.

ومن دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه، ومن قال: «سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر».

ومن قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي»، وعليكم أيضا بـ«كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن وهما سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» قدر المستطاع.

والحمد لله ربّ العالمين..

⇐ المزيد من الخطب حول الهجرة النبويَّة:

وفقنا الله ﷻ وإياكُم لكل خير وتوفيق.

أضف تعليق

error: