عندما نتحدث عن الأسماك وذاكرتها، سرعان ما يتبادر إلى أذهان الكثيرين ذلك المشهد الشهير من فيلم الرسوم المتحركة “البحث عن نيمو”، حيث يلتقي الأب بسمكة تدعى “دوري” تعاني من فقدان الذاكرة المؤقت، فتقرر مساعدته في البحث عن ابنه، لكنها تنسى كل شيء كل بضع دقائق. هذه الصورة الكوميدية ترسّخت في أذهان الناس، وولّدت الاعتقاد الخاطئ بأن الأسماك كائنات ضعيفة الذاكرة، حتى بات من المعتاد وصف الأشخاص كثيري النسيان بأن لديهم “ذاكرة سمكية”. ولكن، هل هذا الاعتقاد صحيح فعلاً؟
في هذا المقال، نستعرض الحقائق العلمية التي تنسف هذا الاعتقاد الشائع، ونتناول تجارب ودراسات تثبت أن الأسماك تمتلك قدرات ذاكرية وذهنية مدهشة، بل وتفوق في بعض الأحيان أداء بعض الثدييات الصغيرة.
الأسماك: كائنات قديمة وذكية
الأسماك من أقدم الكائنات الحية على سطح الأرض، وهي منتشرة في كل مكان تقريبًا: في الأنهار، والبحار، والمحيطات، وحتى في القنوات المائية. وتتنوع أحجامها من 1 سم إلى أكثر من 15 مترًا، وتتفاوت أوزانها من بضعة جرامات إلى أطنان.
هذا الانتشار والبقاء عبر ملايين السنين يطرح سؤالًا منطقيًا: هل يمكن لمخلوق بهذا التنوع والانتشار أن ينجو طوال هذا الزمن بدون ذاكرة قوية؟ الإجابة ببساطة: لا. فبقاء أي كائن حي في بيئة طبيعية مليئة بالمخاطر يعتمد بدرجة كبيرة على ذاكرته.
الذاكرة لدى الكائنات الحية عمومًا
جميع الحيوانات تمتلك ذاكرة، سواء لتحديد أماكن الطعام، أو لتجنب الأعداء، أو لمعرفة أماكن المبيت. فالذاكرة عنصر أساسي للبقاء، وبالتالي، من غير المنطقي أن تكون الأسماك – التي تعيش في بيئة مفتوحة وخطرة – بدون ذاكرة.
الاعتقاد بأن ذاكرة السمك لا تتعدى ثلاث ثوانٍ، ليس له أي أساس علمي، بل على العكس، أظهرت الأبحاث أن بعض الأسماك تملك قدرات تذكّر مذهلة، وتحتفظ بالتفاصيل لفترات طويلة قد تمتد لأشهر وسنوات.
تجارب علمية تثبت قوة ذاكرة الأسماك
1. تجربة تمييز أماكن الطعام
في تجربة أجراها مجموعة من الباحثين، قاموا بتدريب أسماك في حوض تربية ضخم على التوجه لمكان محدد خلال النهار وآخر مختلف خلال الليل للحصول على الطعام. استمرت جلسات التدريب لثلاثة أيام، بواقع 20 دقيقة يوميًا.
وبعد انقطاع التدريب لأسبوعين، لاحظ الباحثون أن الأسماك حافظت على سلوكها، فتجمعت في المكان الصحيح في الوقت المناسب – مما يدل على قدرتها على التذكر لفترة طويلة.
2. تجربة المفتاح المُطلق للطعام
في تجربة مشابهة، تم وضع مفتاح داخل الحوض، يؤدي الضغط عليه في أوقات معينة إلى انطلاق الطعام.
وبعد التدريب، بدأت الأسماك تضغط على المفتاح فقط خلال الساعات التي يتوفر فيها الطعام، مما يعني أنها تعلمت التوقيت المناسب، وتجنبت هدر الجهد في أوقات غير مجدية.
3. مهارات غير متوقعة: استخدام الأدوات
من أغرب الاكتشافات حول سلوك الأسماك، أن بعض الأنواع تستخدم أدوات لتحقيق أهدافها. فقد لوحظ أن نوعًا من الأسماك الذي يتغذى على قنافذ البحر، بدأ يدحرج الصخور عليها من أماكن مرتفعة لتكسير قشورها الخارجية بدلاً من الاصطدام المباشر بها.
هذا السلوك المعقد يُظهر قدرة عقلية تتجاوز بكثير ما يُنسب عادة للأسماك.
واقرأ أيضًا ⇐ لماذا تصطاد حيتان الأوركا أسماك القرش وتكتفي بأكل أكبادها فقط؟
سلوكيات ذكية: حماية البيض والتمييز العددي
حماية البيض باستخدام وسائل ذكية
أسماك السلّور، عند شعورها بالخطر على عشها، تقوم بلصق البيض على أوراق أو صخور صغيرة الحجم، لتتمكن من نقله بسهولة إلى مكان آمن، بدلًا من محاولة حمل البيض نفسه مباشرة.
العد والتمييز بين الأرقام
في تجربة أخرى، عرض الباحثون على الأسماك بطاقات تحتوي على عدد مختلف من النقاط. وكان مطلوبًا من الأسماك الاقتراب من البطاقة التي تحتوي على عدد أكبر أو أقل حسب التمرين.
وبعد أكثر من 1200 جلسة تدريبية، وصلت دقة الأسماك في اختيار البطاقة الصحيحة إلى 91%! بل وتمكنت من التمييز بين بطاقات تحتوي على 10 نقاط وأخرى بها 15 نقطة – مما يدل على قدرات عدّ مميزة.
تطبيقات اقتصادية مبنية على ذاكرة السمك
لم تقتصر هذه الاكتشافات على الجانب الأكاديمي فحسب، بل استُخدمت في الزراعة السمكية لتحسين الكفاءة وتقليل التكاليف.
في إحدى المبادرات، قام المزارعون بتدريب آلاف الأسماك على الاستجابة لصوت معين وقت الطعام. وبعد تدريبها بشكل جيد، أُطلقت في البيئة الطبيعية، حيث تغذت ونمت دون تدخل بشري. وعند وقت الحصاد، تم تشغيل نفس الصوت، فتجمعت الأسماك في نقطة محددة، لتُصاد بسهولة، وقد أصبحت أكبر حجمًا وأكثر قابلية للبيع، وكل ذلك دون الحاجة لتكاليف الرعاية اليومية.
والخلاصة: ذاكرة السمك ليست قصيرة كما يُشاع
من خلال التجارب العلمية والسلوكيات الذكية المرصودة، يتضح أن ذاكرة الأسماك ليست ضعيفة كما يروّج البعض، بل هي ذاكرة قوية تخدم بقائها وتُظهر سلوكيات معقدة وذكية.
الأسماك تتعلم، وتتذكر، وتخطط، وتستخدم أدوات، بل وتُسهم معرفتها في تطبيقات اقتصادية ناجحة. لذلك، لم تعد “الذاكرة السمكية” إهانة، بل قد تكون مجاملة في بعض السياقات!