لماذا تصطاد حيتان الأوركا أسماك القرش وتكتفي بأكل أكبادها فقط؟

لماذا تصطاد حيتان الأوركا أسماك القرش وتكتفي بأكل أكبادها فقط؟

جريمة غامضة على شواطئ جنوب إفريقيا

في فبراير من عام 2023، وقعت حادثة غريبة للغاية في مدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا. فقد استيقظ السكان ليجدوا جثث 19 سمكة قرش مرمية على الشاطئ، وهو أمر أثار الكثير من التساؤلات، ليس فقط بسبب العدد الكبير، بل لأن القروش المقتولة لم تكن متآكلة بالكامل أو حتى جزئياً، بل كانت جميعها سليمة تماماً باستثناء عضو واحد مفقود: الكبد.

كل قرش من تلك القروش، من نوع سفن جيل عريض الأنف، كان قد فُتح بدقة جراحية من منطقة الكتفين، وسُحب منه الكبد فقط، دون أن تمس باقي الأعضاء. للوهلة الأولى، قد يظن البعض أن من فعل ذلك بشر قاموا باصطياد القروش لاستخراج الكبد فقط، إلا أن الحقيقة كانت أكثر غرابة؛ إذ لم يكن القاتل طبيباً أو صياداً، بل كان حوت أوركا بارعاً في فنون الصيد والجراحة!

خيوط الجريمة: من الفاعل؟

لم تكن معرفة الجاني بالأمر السهل لعامة الناس، لكن بالنسبة لعالمة الأحياء البحرية أليسون تاونر، كانت الأدلة واضحة. فآثار العضات الموجودة على أجسام القروش لا تدع مجالاً للشك: الفاعل هو حوت أوركا.

ولكن الغريب في الأمر لم يكن هوية الفاعل فحسب، بل دقة الاستهداف. فكل القروش كانت مفتوحة من نفس المكان، وكلها سُحب منها الكبد فقط، مما يعني أن العملية كانت مقصودة وليست عشوائية. هذا يدفعنا للتساؤل: لماذا تستهدف الأوركا الكبد فقط دون باقي أجزاء السمكة، رغم أنها تحتاج يومياً لما يزيد عن 200 كغ من الطعام بسبب وزنها الذي قد يتجاوز 9 أطنان؟

تاريخ الظاهرة: ليست حادثة فردية

رغم أن حادثة فبراير 2023 كانت مثيرة للاهتمام بسبب عدد الضحايا الكبير، إلا أنها ليست الأولى من نوعها. فمنذ عام 2015، بدأ العلماء برصد ظاهرة استهداف حيتان الأوركا لقروش السفن جيل تحديداً، والتي كانت تتجمع في مناطق معينة من مياه جنوب إفريقيا لتفادي أسماك القرش الأبيض الكبير، المفترس الأشرس لها.

لكن المفاجأة أن الأوركا بدأت تظهر في تلك المناطق وتقتل القروش واحداً تلو الآخر، مستهدفة الكبد فقط. بل وتطوّر الأمر لاحقاً، ففي عام 2017 تم رصد حيتان الأوركا وهي تهاجم أسماك القرش الأبيض الكبير نفسها، والتي تُعد أضخم وأشرس الأسماك المفترسة في البحار.

القرش الأبيض الكبير: من مفترس إلى فريسة

القروش البيضاء الكبيرة تُعرف بشراستها وحجمها الهائل، إذ قد يصل طولها إلى أكثر من 6 أمتار، ووزنها إلى 2.2 طن، وتملك فكين قادرين على تمزيق 15 كغ من اللحم بعضة واحدة. وهي أيضاً من أكثر الأسماك مهاجمة للبشر والقوارب.

ومع ذلك، لم تصمد أمام ذكاء الأوركا. فبعد عدة هجمات ناجحة من الأوركا، لوحظ هروب جماعي للقروش البيضاء من مناطقها المعروفة بجنوب إفريقيا، خوفاً من الحيتان القاتلة. هذا الهروب الجماعي كشف مدى الرعب الذي تبثه الأوركا حتى في أكثر مفترسات البحر قوة وشراسة.

السر في الكبد: ما الذي يميز كبد أسماك القرش؟

السؤال الأهم يظل مطروحاً: لماذا تستهدف الأوركا الكبد تحديداً؟

الإجابة تكمن في تركيبة الكبد نفسه. فكبد أسماك القرش، وخاصة القرش الأبيض، يُعد من أغنى أعضاء الجسم بالدهون، الفيتامينات، والطاقة. يحتوي على كميات هائلة من أوميغا 3، فيتامين E، وفيتامين D، وكلها عناصر تمنح الأوركا طاقة ونشاطاً استثنائياً.

وعلاوة على ذلك، يشكل كبد القرش حوالي ثلث حجم جسمه، مما يجعله وجبة دسمة وغنية، وسهلة الهضم في الوقت نفسه. لذلك، أصبح كبد القرش أشبه بمشروب طاقة طبيعي للأوركا، بل إن بعض الباحثين شبّهوا الأمر بنوع من الإدمان لدى هذه الحيتان الذكية.

كيف تعلمت الأوركا هذه المهارة الدقيقة؟

قد يبدو من المدهش أن تستطيع الأوركا تمييز عضو معين في جسم فريستها بدقة جراحية. لكن ما هو أعجب من ذلك هو: من علمها هذه المهارة؟

هنا يظهر دور زوج من ذكور الأوركا معروفين بين العلماء باسم بورت وستاربورد. هذان الحوتان رُصدا لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي قرب سواحل كندا، واشتهرا بقربهما الشديد من بعضهما البعض، إذ كانا يقضيان كل أوقاتهما معاً في الصيد والنوم وحتى السفر.

ولأن أحدهما زعنفته مائلة لليمين والآخر لليسار، سُمّيا تيمناً بمصطلحي “الميمنة” و”الميسرة” البحريين. وقد لاحظ العلماء أن هذين الحوتين كانا أول من مارس عملية استهداف كبد القروش، بل وقاما بنقل هذه “المهارة” إلى مجموعات أخرى من الأوركا.

فهما لم يكونا مجرد صيادين بارعين، بل مدربين وأخصائيي تغذية في عالم المحيطات، ونجحا في تحويل استهداف الكبد إلى ظاهرة متكررة بين مجموعات الأوركا الأخرى.

وهنا تقرأ عن ⇐ حوت النروال “كركدن البحر”: وحيد قرن البحار

الظاهرة تنتشر: من جنوب إفريقيا إلى العالم

ولم تتوقف الظاهرة عند جنوب إفريقيا فقط. فقد تم رصد سلوك مشابه في أماكن مختلفة من العالم، منها كاليفورنيا ونيوزيلندا، وإن كانت أقل حدة من تلك التي قادها بورت وستاربورد في جنوب إفريقيا.

وبغض النظر عن المكان أو الأعداد، فإن هذه الحوادث تؤكد حقيقة واحدة لا يمكن تجاهلها: حيتان الأوركا هي كائنات فائقة الذكاء. فقد منحها الله قدرة على التكيف والصيد بأساليب تتفوق حتى على الإنسان في بعض الحالات، لتبقى مثالاً مذهلاً على عظمة الخلق ودقة النظام البيئي في أعماق المحيطات.

خلاصة القول

ما تفعله الأوركا اليوم مع أسماك القرش لا ينبع من عشوائية أو شراسة عمياء، بل من ذكاء استثنائي وتخطيط دقيق. فمن اختيار الفريسة إلى تحديد العضو المستهدف، وصولاً إلى الجراحة المتقنة… الأوركا لا تكتفي بالصيد، بل تتقن فنونه، لتجعل من كبد القرش وجبتها المثالية – مغذية، دسمة، وسريعة الهضم.

فسبحان من علّم هذه الكائنات أسرار البقاء والنجاة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top