لماذا نشعر بحرارة الفلفل وبرودة النعناع؟

لماذا نشعر بحرارة الفلفل وبرودة النعناع؟

في عالم النباتات، لا يتوقف الأمر عند مجرد زراعتها وسقيها، بل إن التنوع الموجود في مذاقها وتأثيرها الحسي يكاد يكون لغزاً بيولوجياً مثيراً. تخيل أن تزرع الفلفل والنعناع في نفس التربة وترويها بنفس المياه، ومع ذلك ينتهي بك المطاف إلى طعامين بتأثيرين متناقضين تمامًا: أحدهما يلسعك بحرارته، والآخر ينعشك ببرودته. فما السر وراء هذه المفارقة الغريبة؟ ولماذا تختلف استجابة أجسامنا لهذين النباتين رغم نموهما في بيئة واحدة؟

اختلاف المذاق وتأثيره على الجسم

إذا جربت أن تتناول قطعة صغيرة من الفلفل الأحمر الحار، ستشعر بحرارة شديدة تجتاح فمك وقد يتصبب العرق من جبينك، وكأنك تعرضت لحرارة حقيقية. أما لو وضعت قطعة من النعناع على لسانك، فستشعر بانتعاش وبرودة ملحوظة قد تذكّرك بشعور شرب الماء المثلج في يوم صيفي.

ورغم أن كليهما نبات، إلا أن التأثير مختلف تمامًا، وهذا يعود إلى طريقة تفاعل الجسم مع مركبات معينة موجودة في كل منهما.

مستقبلات الحرارة والبرودة في أجسامنا

لفهم هذا التباين، علينا أن نتعرف على المستقبلات العصبية الحسية. هذه المستقبلات، وهي عبارة عن بروتينات موجودة في نهايات الأعصاب، تنشط استجابةً لمحفزات معينة مثل الحرارة أو البرودة. فمثلًا، عندما يتعرض الجلد لحرارة الشمس، تبدأ مستقبلات تُعرف باسم TRP (Transient Receptor Potential) في إرسال إشارات للدماغ تفيد بتعرض الجسم للحرارة، فيتفاعل على الفور لتجنّبها. والأمر ذاته يحدث مع البرودة، حيث توجد مستقبلات أخرى تستشعر درجات الحرارة المنخفضة وتحذر الجسم منها.

ولكن ما علاقة هذا بالفلفل والنعناع؟ المدهش في الأمر أن هناك مواد كيميائية قادرة على “خداع” هذه المستقبلات وجعلها تتصرف كما لو كانت تستجيب لحرارة أو برودة حقيقية، بالرغم من أن درجات الحرارة لم تتغير فعليًا.

كذلك؛ هل تعلم ⇐ لماذا لا يجب وضع البلاستيك أو المعادن داخل الميكروويف؟

الكابسيسين: العنصر الحار في الفلفل

في حالة الفلفل الحار، يوجد مركب نشط يُسمى الكابسيسين (Capsaicin)، وهو مادة دهنية عديمة اللون والرائحة. عندما يلامس الكابسيسين مستقبلات معينة في الفم، خاصة مستقبلات VR1، يرتبط بها ويفتح قنواتها الأيونية، مما يسمح لأيونات الصوديوم بالدخول إلى الخلايا العصبية. هذا التفاعل يُنشط الأعصاب ويرسل إشارات إلى الدماغ تفيد بوجود “حرارة”، رغم أن الفم لم يتعرض لأي مصدر حراري فعلي.

لهذا السبب نشعر بحرارة أو حرقان عند أكل الفلفل. ومن هنا نفهم لماذا لا تنجح المياه في تخفيف هذا الإحساس: الكابسيسين لا يذوب في الماء، بل يذوب في الدهون. لذلك، يكون الحليب هو الخيار الأفضل لتخفيف حدة الفلفل، بفضل احتوائه على بروتين الكازين الذي يرتبط بالكابسيسين ويمنعه من التأثير على المستقبلات العصبية. كما يمكن استخدام ماء محلى بالسكر لنفس الغرض.

المنثول: العنصر البارد في النعناع

على الجانب الآخر، يحتوي النعناع على مركب يُسمى المنثول (Menthol)، وهو زيت طيّار ذو رائحة عطرية مميزة. عند ملامسته للجلد أو الفم، يرتبط بمستقبل يُعرف باسم TRPM8، وهو المسؤول عن استشعار البرودة. وبمجرد الارتباط، تفتح القنوات الأيونية وتدخل أيونات الصوديوم والكالسيوم إلى الخلية العصبية، مما يغير شحنتها الكهربائية، فيُرسل الدماغ إشارة تدل على الشعور بالبرودة.

وبالتالي، فإن الإحساس المنعش الذي نحصل عليه من النعناع ليس نتيجة برودة حقيقية، بل خداع عصبي ذكي تقوم به مادة المنثول.

لماذا تنتج النباتات هذه المركبات أساسًا؟

قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: هل الغرض من الكابسيسين والمنثول هو التأثير الحسي فقط؟ في الحقيقة، لا. هذه المركبات الكيميائية لها دور حيوي في حياة النباتات، فهي تُعد أدوات دفاعية طبيعية تحميها من الافتراس، خاصة من الثدييات التي تمتلك مستقبلات حساسة تتفاعل مع هذه المركبات.

وجود هذه المواد يساعد النباتات على البقاء؛ إذ تتجنب الحيوانات أكلها بسبب تأثيراتها غير المرغوبة، مما يمنح النبات فرصة للحفاظ على بذوره واستمرار سلالته. ولعل هذا هو أحد أسباب عدم انقراض أنواع كثيرة من النباتات حتى الآن.

فوائد صحية مدهشة للإنسان

فضلاً عن فوائدها للنبات، فإن لكل من الكابسيسين والمنثول استخدامات طبية عديدة:

فوائد الكابسيسين:

  • يُعتبر مضادًا للفطريات والميكروبات.
  • يُساعد في إنقاص الوزن عبر تسريع عملية التمثيل الغذائي.
  • يُستخدم كمُسكّن للألم، خصوصًا في كريمات التهاب المفاصل والروماتويد وآلام العضلات الليفية.
  • أظهرت دراسات حديثة أنه قد يُساهم في قتل خلايا سرطان البروستاتا ويُبطئ نمو خلايا اللوكيميا.

فوائد المنثول:

  • يُستخدم منذ عقود في تخفيف آلام المفاصل والعضلات والعظام.
  • يمنح شعورًا بالبرودة المنعشة من خلال تنشيط مستقبل TRPM8.
  • يُساعد في توسيع الأوعية الدموية وزيادة تدفق الدم.
  • يُستخدم في علاجات حروق الشمس وفي تخفيف آلام المعدة.

وبالمناسبة؛ هل تعلم ⇐ كيف تسمع الثعابين دون أن تمتلك أذنين؟

خلاصة القول

الفلفل والنعناع مثالان رائعان على كيف يمكن للطبيعة أن تُخدع حواسنا بطريقة دقيقة ومدهشة عبر مركبات كيميائية بسيطة. الكابسيسين لا يحرقك فعليًا، لكنه يقنع دماغك بذلك. والمنثول لا يُبرد جسدك فعليًا، لكنه يوهمك بالانتعاش. هذا التفاعل المذهل بين الكيمياء والأعصاب لا يُبرز فقط عبقرية التصميم البيولوجي، بل يكشف أيضًا عن إمكانيات علاجية وصحية لم نكن لنخمنها من مجرد نكهة أو إحساس في الفم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top