خطبة جديدة تحت عنوان: خصلتان يحبهما الله ﷻ (الحِلمُ والأناة)

خطبة جديدة تحت عنوان: خصلتان يحبهما الله ﷻ (الحِلمُ والأناة)

عناصر الخطبة

  • الله ﷻ بعث النبي ﷺ ليتمم مكارم الأخلاق الحسنة.
  • وصف الله ﷻ نفسه بصفة الحِلم، ومدح الأنبياء لتخلّقهم بهذه الصفة العظيمة.
  • الأناة صفة تدعو صاحبها إلى التثبت وعدم التسرع بالحكم على الناس.

الخطبة الأولى

أرشدنا النبي ﷺ إلى خصلتين إن التزمهما المُسلم انتظمت حياته، واطمأنت نفسه، واعتدلت طباعه، ونال خيراً ومحبة من الله ﷻ في الدنيا ورفعة في الدرجة والمنزلة في الآخرة، وهما صفتا (الحِلم، والأناة)، وتعنيان ضبط النفس عند الغضب والتروي في معالجة الأمور بحكمة وفطنة، فمن قاس الأمور وتأنى في قوله وفعله، نجى من ندم الطيش والتهور، وقد قال بعض الحكماء: “إياك والعجلة! فإن العرب تكنيها أم الندامة؛ لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويقطع قبل أن يقدر، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم قبل أن يَخْبُر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلا صحب الندامة، واعتزل السلامة”.

لما حضر وفد عبد القيس إلى المدينة المنورة، أسرع الوفد إلى النبي ﷺ، فجعل الصحابة رضي الله عنهم ينزلون عن رواحلهم ويسرعون إلى النبي ﷺ يسلمون عليه ويقبلون يديه ورجليه، وانتظر الأشج بن عبد قيس حتى أتى جمع رواحلهم وعقل ناقته واغتسل ولبس أحسن ثيابه ثم أتى النبي ﷺ فقال له: «إن فيك خلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. سنن الترمذي.

لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك”.

وقد وصف الله ﷻ ذاته العليّة بصفة الحِلم، ومدح نفسه بالرفق، فمن أسماء الله ﷻ الحسنى الحليم قال الله ﷻ:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة 235. فأعظم الأخلاق أن يتصف المسلم بمقتضى أسماء الله الحسنى وصفاته، وهما من صفات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد وصف الله ﷻ، سيدنا إبراهيم عليه –الصلاة والسلام– بالحلم، قال الله ﷻ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} التوبة :114. وبشره الله ﷻ بغلام حليم فقال الله ﷻ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} الصافات: 101.

وقد تجلّت هاتان الخصلتان العظيمتان في خلق سيدنا محمد ﷺ الذي جعله الله ﷻ رحمة للعالمين، فكان رسول الله ﷺ غاية في الحلم والاناة والعفو امتثالاً لقول الله ﷻ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت: 34–35.

فالسنة النبوية حافلة بمواقف النبي ﷺ بالحلم والاناة ومن تلك المواقف قصة الأعرابي.

روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى عاتق رقبة رسول الله ﷺ قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثم ضحك ثم أمر له بعطاء” متفق عليه.

ولا يعني التخلق بالحِلم والأناة أنه دليل ضعف في الشخصية، بل هو دليل حكمة وفطنة، وبهما يصل الإنسان الى غاياته ويحقق نتائجه بسلم وأمان، لذلك وجهّنا النبي ﷺ إلى تعلم الحِلم والصبر وتدريب النفس عليهما لما فيهما من نفع وخير على النفس والمجتمع، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله ﷻ عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ» معجم الطبراني.

فهذا الأحنف بن قيس رضي الله ﷻ عنه الذي ساد قومه وعلا شأنه ونَفُس معدنه قبل الإسلام وبعده، بسبب اشتهاره بالعفو والحِلم، والأناة في تدبير الأمور، حتى اشتهر بين العرب بلقب “حليم العرب وحكيمها”، وقد قال لأصحابه يوماً: “أتعجبون من حلمي وخُلقي؟ إنما هذا شيء استفدته من عمي صعصعة، شكوت إليه وجعاً في بطني فأسكتني مرتين ثم قال لي: يا ابن أخي لا تشك الذي نزل بك إلى أحد، فإن الناس رجلان: إما صديق فيسوؤه، وإما عدو فيسره، ولكن أشك الذي نزل بك إلى الذي ابتلاك، ولا تشك قط إلى مخلوق مثلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه مثل الذي نزل بك، يا ابن أخي إن لي عشرين سنة لا أرى بعيني هذه سهلاً ولا جبلاً فما شكوت ذلك لزوجتي ولا غيرها”.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.

عباد الله: لقد حثّنا الله ﷻ على التأني في الأمور وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام: يقول ﷻ: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) الأنبياء:37، فكم من نزاعات حصلت وأُسر تفككت، وارواح أزهقت، بسبب الاستعجال في إطلاق الأحكام دون دليل أو برهان، فالإنسان العجول قد تؤدي عجلته إلى الرعونة في التصرف، ويبدد طاقته سريعاً فلا يدرك مقصوده وغايته، وقد قال النبي ﷺ: «إنَّ الْمُنْبَتَّ لَا سَفَرًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» سنن البيهقي. الْمُنْبَتَّ هو الذي يقسو على راحلته في السفر حتى يصل سريعاً، فيرهقها حتى لا تستطيع إكمال المسير، فلا هو وصل إلى وجهته، ولا هو حافظ على راحلته.

وكم وقعت خلافات وخصومات بين المسلمين بسبب التسرع في إطلاق الأحكام على الناس وذمّهم بلا دليل ولا برهان، ورميهم بالضلال والابتداع وإنما باتباع الظنّ والهوى، لذلك أمرنا الله ﷻ في كتابه الحكيم بالتثبت والتيقن قبل إطلاق الأحكام، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات: 6، فعداوة الناس بسبب الشبهات أمر مخالف لمنهج الإسلام المعتدل وشريعته، واتهام المسلمين بالبدعة دون دليل أو برهان أو بسبب مسائل فقهية اختلف فيها العلماء يؤدي إلى نشر العداوة والبغضاء.

والأصل في المسلم أن يلتزم منهج الله ﷻ في إحسان الظنّ بإخوانه والعفو عن المذنبين، والإعراض عن الجاهلين، والاستعاذة من نزغات الشياطين التي تلقي العداوة والبغضاء بين المسلمين، حتى يكون بذلك قد استوعب مكارم الأخلاق، يقول ﷻ: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأعراف: 199–200.

الحمد لله رب العالمين..

أضف تعليق

error: