بائعة «اللِب» – بقلم: د. أحمد بن راشد بن سعيد

بائعة «اللِب» – بقلم: د. أحمد بن راشد بن سعيد

تذكرني عبارة “بائعة الفصفص” بالرواية الفرنسية “بائعة الخبز”.. إنها ليست بائعة هوى ولا بائعة أوهام، فهي ربما تفهم الرومانسية والشموع والأضواء الخافتة والإيقاعات الحالمة أكثر مما يفهم كثير من أدعياء هذا الزمان، ومن ثم فهي شاعرة بامتياز.

قد يمر رجل مليء بـ”بسطة” تجلس إزاءها بائعة فصفص/لب فقيرة، سمراء البشرة كالشكولاتا، فتأسره عيناها الواسعتان، ويقع في “دباديبها”، ومن ثم يقترن بها، ويكتشف فيما بعد أنها لا تكف عن تناول كل أنواع اللِب, لكنها تأسر اللُب، ذات دل وغنج، وابتسامة لا تفارق محياها، وبريق في عينيها “يظمأ الساري له”، وروح خضراء تتدفق شعراً.. ألا تكون بهذا صادحة بأجمل الأنغام، وملهمة أعذب الكلام؟.

وفي اللِب سبع فوائد

لكن لماذا الحديث عن بائعة الفصفص؟ هذه المرأة وقعت فيما يبدو ضحية معركة أدبية في المملكة العربية السعودية مطلع القرن الحادي والعشرين.. حوصرت بين نارين، وتقطعت بها السبل، فإذا “بسطتها” تحترق وعيناها تدمعان، تتلفت إلى حيث أورقَ روضُها وأثمرَ غرسُها، “واللحظُ ماءٌ والديارُ ضرامُ”.. هناك من رماها بالجهل وقلة الباع في شأن الأدب، وهناك من استغل حبات العرق المتلألئة على جبينها ليوظفها في معركة ينال بها من غيره.

لماذا يعرِّضون باللِب، وقد كان يوماً سمير العشاق ونديم مجالسهم، وربما تساقوا كؤوس الشعر على هسهسات أبزاره، وارتجلوا أعذب الأبيات على شرف نكهته.

ربما يفضي توظيف أمثولة اللب للنيل من شاعرية بائعته أو ثقافتها الأدبية إلى نتيجة عكسية تماماً (backfire)، فهذه البائعة قد تغري وتغوي وتتمايل وتُطرب وتمارس (الدلع) بأشكاله اللفظية وغير اللفظية، وكل هذه مهارات شاعرية لا تخطئها العين.

بل إن طبيعة تناول اللِب تدفع المتناول إلى التخيل والتأمل والسباحة الذهنية والتحليق في فضاءات لا متناهية، والخروج من أسر الواقع إلى العوالم الميتافيزيقية/ الفلسفية، وكلها سياقات إبداعية تشكل مزاج الشاعر.

في الحقيقة، يسهم اللب في التخفيف من الضغوط النفسية، إذ يتطلب تركيزاً أثناء فضفضته وقرمشته، وهو ما ينسي المرء ولو لبعض الوقت همومه ومآسيه، ويمنحه فرصة للاسترخاء والانتعاش.

بل إن المجالس لا تحلو في كثير من الأحيان إلا بمسامرة هذا اللِب، وكم هو جميل أن يضج مجلس سرب من النسوة بأصوات شق الأبزار والتهام أحشائها، الأمر الذي يحول الاجتماع إلى “آكشن”، ويوفر وقوداً محركاً لثرثرات عذبة لا تنتهي.

ولا تسل عن المباريات الرياضية التي يتفرج عشاقها عليها في الوقت الذي تتراكم فيه أعقاب اللِب عن أيمانهم وعن شمائلهم، وما كان للحماس أن يلتهب، ولا للهتاف أن يدوِّي لولا عبق ذاك اللِب وإغراؤه.

ليس اللب إذاً نوعاً مثيراً وشهياً من الأبزار فحسب، بل إنه يساعد على هضم المعلومات، ويضفي الحميمية على سهرات الأحبة، ويجعل الدردشة تجربة أكثر إمتاعاً.

لو يعلم الرجال

بعد كل هذا كيف يمكن التعريض ببائعة اللب/الفصفص، أو التقليل من شأنها، أو إدخالها في معارك طواحين هواء لا ناقة لها فيها ولا جمل؟، كيف يسمح أصحاب المعارك الأدبية المعاصرة لأنفسهم بالتقليل من إنسانية امرأة مكافحة تسترزق من سلعة طيبة مباركة، ثبت أنها تروِّح عن النفس وتطرد الملل وتجعل لمجالس الأنس طعماً آخر؟، وكيف يمكن النيل من المخيال الأدبي لهذه المرأة أو ذائقتها الشعرية، وهي التي ربما تعطلت لغةُ الكلام أمام سحر عينيها، وضمَّت بين جوانحها قلباً مُترعاً بأجمل المعاني وأرقها؟.

ذات نهار كان محمد بن عباد -اتخذ لاحقاً لقب “المعتمد”- صاحب إشبيلية، وصديقه ابن عمَّار، يتنزَّهان قرب مرج الفضة على شاطئ نهر الوادي الكبير بإشبيلية، فأعجب بمنظر الماء المتموج فقال: صنعَ الريحُ على الماء زَرَدْ، ثم طلب إلى ابن عمار أن يجيز قوله (يكمل شطر البيت) فأبطأ، وكان على الشاطئ جوارٍ يملأن جرارهن، فقالت إحداهن واسمها اعتماد: أيُّ درعٍ لقتالٍ لو جَمَدْ، فردد المعتمد البيت بعد اكتماله: صنعَ الريحُ على الماء زَرَدْ/ أيُّ درعٍ لقتالٍ لو جَمَدْ، وبهره حسنُ الجارية وذكاؤها وحلاوة منطقها، فاشتراها وتزوجها، ولما آل إليه الأمر في إشبيلية بعد وفاة أبيه المعتضد اشتق من اسمها لقبه (المعتمد)، وفي ذلك يقول خاتماً قصيدة فيها من ستة أبيات, يبدأ كل بيت منها بحرف من حروف اسمها: “دسَسْتُ اسمَك الحلوَ في طيِّه/ وألفتُ منه حروفَ اعتمادْ”).

ربما تملك امرأة مغمورة مُزدراة من موهبة البيان وحضور البديهة وتوقد الذهن ما لا يملكه الذين ظنوا أنهم برعوا في النقد، أو ملكوا ناصية الشعر وانقادت إليهم أعنته.

ولأكن أكثر وضوحاً: أعرف صديقاً أحب بائعة لِب حتى الثمالة، فأصبح شاعراً ولم يكن من قبل يكتب الشعر، كانت إفريقية الأصل، ولا تسل عن حسنها ورشاقتها وخفة ظلها.. (شربات)، تزوجها وطفقت تريه من نفسها ما يقر عينه ويثلج صدره حتى شعر أنه ذو حظ عظيم، وقد أكد لي أن اللِب كان سر تألقها وجنونها.. نعم؛ وحده الفصفص علمها كيف (تبصبص) و(تمصمص)، وساعدها كونها صبرت وناضلت من أجل لقمة العيش الكريمة على التفنن في إرضاء بعلها وغض الطرف عن ما قد يعكر صفو الحياة الزوجية من أكدار.

“آه لو يعلم الرجال ما في بائعات الفصفص لاقتتلوا عليهن!”.. هكذا همس لي صديقي ذات مرة بصوت خافت.

آمنت لحظتها أن شاعرية بائعة اللب وذائقتها الأدبية وحسها الرومانسي المتوقد أمور لا تحتاج إلى دليل، وكما غرد أبو الطيب ذات يوم:

“وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى (دليل)”!

  • تنويه 1: كلمتا “اللب” و “الفصفص” مترادفتان واستخدمتا في هذا المقال تبادلياً لتصفا الشيء نفسه.
  • تنويه 2: “بسطة” تشير إلى بساط يفرشه شخص ما ليبيع بعض السلع أو المنتجات.

بقلم: د. أحمد بن راشد بن سعيد

⇐ هل ترغب بقراءة المزيد؟!

أضف تعليق

error: