الطعام ليس مجرد وسيلة لسد الجوع، بل هو حكاية متكاملة من الطعم والرائحة والمشاعر. فهناك أطعمة تُشعرك بالشبع، وأخرى تُشعرك بالجوع مجددًا، وهناك أطعمة تُسعدك أو تُتعبك. البعض يأكل من أجل المتعة، وآخرون من أجل البقاء فقط، لكنّ من الطرائف الشعبية التي رددها الناس قديمًا كانت: “هاتوا لنا شاي بعد السمك… علشان السمك بينيم”.
هذه المقولة، التي ربما نسمعها إلى الآن، تُثير سؤالًا مهمًا: لماذا نشعر فعلًا بالنعاس بعد أكل السمك؟ هل الأمر له علاقة فقط بالسمك؟ أم أن تناول الطعام بشكل عام يمكن أن يؤدي لهذا الشعور؟
كيف يؤثر الطعام على نشاط الجسم؟
في البداية، من الضروري أن نوضح أن تناول الطعام بوجه عام يمكن أن يُدخل الجسم في حالة من الخمول، قد تنتهي أحيانًا بالنعاس. السبب في ذلك يعود إلى الطريقة التي يتعامل بها الجسم مع الطعام بعد تناوله.
فالجهاز الهضمي يعمل على تكسير مكونات الطعام وتحويلها إلى جلوكوز، وهو المصدر الأساسي للطاقة. لكي يستفيد الجسم من هذا الجلوكوز، يُفرز البنكرياس هرمون الأنسولين، الذي ينقل الجلوكوز إلى الخلايا. إلى جانب ذلك، يتم إفراز هرمون آخر يُسمى الجلوكاجون، الذي يحافظ على توازن نسبة السكر في الدم.
هذه العمليات تجعل خلايا الجسم – بما في ذلك المخ – تتغذى جيدًا وتشعر بـ”الرضا”. وعندما يشعر المخ بالرضا، يُفرز هرمون الميلاتونين، وهو ما يُعرف بهرمون النوم. كذلك، يُفرز الجسم السيروتونين، وهو ناقل عصبي يُنظّم المزاج والنوم والاستيقاظ، ويُلقّب أحيانًا بهرمون السعادة.
لكن هذه الهرمونات، رغم أهميتها، لا تُفرز عادةً بكميات كبيرة بعد كل وجبة. لذلك لا يشعر الإنسان بالنعاس بعد كل وجبة طعام، إلا في حالتين:
- إذا تناول كميات كبيرة من الطعام.
- إذا تناول نوعيات معينة من الأطعمة، مثل الأسماك، حتى لو بكميات قليلة.
تناول كميات كبيرة من الطعام: كيف يُسبب النعاس؟
عندما نتناول وجبة كبيرة، خصوصًا في فترة ما بعد الظهيرة، فإن الجسم يحتاج إلى تحويل جزء كبير من الدم نحو المعدة والأمعاء لمساعدة الجهاز الهضمي في أداء عمله. ونتيجة لذلك، يقل تدفق الدم إلى المخ، مما يؤدي إلى ضعف التركيز والشعور بالإرهاق والنعاس.
إضافة إلى ذلك، فإن المعدة تُفرز حمضًا قويًا لهضم الطعام، مما يرفع من حموضتها. كرد فعل، يُنتج الجسم مادة البيكربونات لمعادلة الحموضة، وهذه المادة تزيد من قلوية الدم، وهو ما يُعزّز أيضًا من الشعور بالتعب والنعاس.
وبالتالي، فعندما تتزامن هذه العوامل مع إفراز السيروتونين والميلاتونين، يزداد احتمال الإحساس بالنعاس بشكل كبير.
بالمناسبة؛ هل تعلم ⇐ لماذا تصدر المعدة أصواتاً عند الجوع؟
لماذا السمك تحديدًا يُسبب النعاس؟
السمك يتميّز عن باقي الأطعمة باحتوائه على حمض أميني يُسمى التريبتوفان، ويتوافر بكثرة في أنواع مثل السلمون، التونة، السردين، والجمبري. هذا الحمض يُعد من العوامل المساعدة على النوم، وله تأثير فعّال في تحسين المزاج ومحاربة الاكتئاب.
عند دخول التريبتوفان إلى الجسم، يبدأ بتحفيز إنتاج السيروتونين، الذي بدوره يُحفّز إفراز الميلاتونين، مما يعني أن التريبتوفان هو السبب غير المباشر في شعورنا بالنعاس بعد تناول السمك.
المغنيسيوم والكالسيوم: عناصر مساعدة في رحلة النعاس
إلى جانب التريبتوفان، يحتوي السمك أيضًا على المغنيسيوم، وهو عنصر يُخفّف من تأثير هرمون الأدرينالين، المسؤول عن التوتر والقلق، وبالتالي يُساهم في تهدئة الجسم والاسترخاء. أما الكالسيوم، فرغم ارتباطه بالعظام، إلا أنه يلعب دورًا في تحفيز إنتاج الميلاتونين أيضًا.
لذلك يمكننا القول إن السمك يُعد وجبة غنية بعناصر متعددة تدفع الجسم للاسترخاء والنوم، خاصة إذا تم تناوله مع الكربوهيدرات مثل الأرز أو الخبز، حيث تُساعد هذه العناصر على تعزيز امتصاص التريبتوفان.
هل التريبتوفان موجود فقط في السمك؟
بالطبع لا. فالتريبتوفان موجود في العديد من الأطعمة الغنية بالبروتين، مثل:
- الدواجن (الدجاج والديك الرومي)
- البيض
- السبانخ
- الحليب ومنتجات الألبان
- الصويا
كما أن الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات، مثل الأرز، المكرونة، الذرة، السكر، والحلويات، تساهم أيضًا في تعزيز إفراز التريبتوفان داخل الجسم. لذلك، فإن وجبة تحتوي على السمك مع الأرز تُعد وصفة مضمونة لحالة من “السبات العميق” بعد الأكل.
ماذا تقول الدراسات العلمية عن تأثير السمك على النوم؟
أجرت جامعة بنسلفانيا دراسة على 541 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 9 و11 عامًا، بهدف معرفة تأثير تناول السمك على جودة النوم. وبعد تحليل الاستبيانات والبيانات التي شملت عوامل اجتماعية واقتصادية مثل تعليم الوالدين والحالة الاجتماعية، تبيّن أن الأطفال الذين تناولوا السمك بشكل متكرر خلال الشهر الماضي:
- عانوا من مشكلات نوم أقل.
- كانوا أقل عرضة للاستيقاظ خلال الليل.
- حصلوا على نوم أكثر هدوءًا واستقرارًا.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت النتائج أن هؤلاء الأطفال سجلوا نتائج أعلى في اختبارات الذكاء بمعدل 4.8 نقاط أكثر من الأطفال الذين لا يتناولون السمك بانتظام.
دراسة أخرى من جامعة أوكسفورد البريطانية على 362 طفلًا دعمت هذه النتائج، مما دفع خبراء التغذية إلى التوصية بإدخال السمك في النظام الغذائي للأطفال منذ سن مبكرة، ولو مرة واحدة أسبوعيًا على الأقل.
وقد يفيدك أيضًا معرفة ⇐ لماذا تُصيبنا الزغطة؟ وكيف نتخلّص منها؟
خلاصة القول
النعاس بعد تناول السمك ليس مجرد خرافة شعبية، بل حقيقة تدعمها التفسيرات العلمية. فالأسماك تحتوي على تركيبة غنية من العناصر التي تُحفّز الجسم على إفراز هرمونات النوم والاسترخاء، مثل التريبتوفان، السيروتونين، الميلاتونين، المغنيسيوم، والكالسيوم.
لذلك، في المرة القادمة التي تُخطط فيها لتناول وجبة سمك، خصوصًا مع الأرز، لا تتفاجأ إذا وجدت نفسك تبحث عن مكان لأخذ قيلولة بعدها. فقد يكون جسمك ببساطة يُخبرك أنه مستعد للدخول في وضع “إعادة التشغيل”.