الحج والأمراض الوبائية.. دراسة شرعية

الحج والأمراض الوبائية.. دراسة شرعية

السؤال: نسمع في هذه الأيام بعض الدعوات بتعليق شعيرتي الحج والعمرة، نطلب من سيادتكم إلقاء الضوء على هذا حتى نستطيع أن نسير في ضوء ما ترشدونا إليه، وجزاكم الله خيرا.

الإجـابة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن علماء الأزهر في مطلع القرن العشرين قد اجتمعوا وناقشوا هذه المسألة وانتهوا إلى رفض أن يكون الوباء في مكان الحج مانعا من أداء الفريضة، وخصصوا الحديث المانع من الانتقال إلى أرض العدوى بأنَّ أداء فريضة الحج أقوى من المنع من الانتقال إلى أرض العدوى.

وعلى السلطات المنظمة للحج أن تتخذ قرارا بعزل أي منطقة أو منع أي حاج من دخول الأراضي المقدسة في حال وجود وباء يهدد سلامة الحجاج ويتسبب في نقله إلى بلدان العالم المختلفة؛ لأن تنظيم حركة الحجيج تقع كاملة على السلطات المنظمة للحج ، كما أن من الواجبات التي تقع عليها : ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين سلامة الحج والحجيج، وأما الدعوى إلى إلغاء فريضة الحج بالكلية نظرا لظنون متوهمة فإنه أمر لا يقبل، وعلى السلطات في كل دولة أن تراقب موانيها وأن تفرض الحجر الصحي على من ظهر عليه أعراض المرض.

يقول الدكتور محمد سعدي -الباحث الشرعي، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- في بحث مقدم لندوة تطور العلوم الفقهية بسلطنة عمان:

الحج من المواسم الدينية التي تشهد اجتماعا كثيفا للناس حيث أوجب الله سبحانه وتعالى الحج على المستطيع قال تعالى: “وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ” آل عمران:97.

والمصاب بالمرض المعدي إن كانت العدوى محققة، وستنتقل للغير، وستتسبب في ضرر بالآخرين، فالقاعدة الفقهية: لا ضرر ولا ضرار، وعلى هذا فإن المصاب بالمرض المعدي يسقط عنه الحج؛ لأنَّ تحقيق مصلحة المجتمع في السلامة من المرض مقدمة على مصلحته في أداء فريضة الحج، وقد سقط وجوب الحج عنه حتى يشفى، فإن شفاه الله بادر بالحج، فإن كان مرضه هذا مرضا مزمنا ولا شفاء منه فله أن ينيب عنه غيره سواء أكانت الحجة حج الفريضة أو حج التطوع.

وعلى ولي الأمر أن يسن من القوانين المانعة من تأدية الحج لمثل هذا المصاب، حتى لا يتسبب المصاب بالمرض المعدي من إصابة الناس.

يقول الشيخ عطية صقر – رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقاً – رحمه الله:

من المعلوم الآن أنَّ الدول تعمل احتياطات لمنع العدوى في السفر، وذلك بالتطعيم أو بوسائل أخرى، ومن عنده مرض مُعدٍ ستحول السلطات دون سفره، وإذا لم تكن هناك سلطات تقوم بالإجراءات الصحية، فهل يجوز له السفر لأداء الفريضة مع احتمال أن يصيب غيره بالعدوى؟

إن كانت العدوى مُحققة أو يغلب على الظن حصولها كان هذا المرض مُسقطًا لوجوب الحج عن المريض حتى يبرأ من مرضه؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: درءُ المفاسد مُقدم على جلْب المصالح.

وبخاصة أن المصلحة في الحج تعود على الشخص نفسه أكثر مما تعود على غيره، أما المفسدة فتصيب كثيرين غيره، ومع سقوط الحج عنه أرى أن مخاطرته بالسفر على الرغم من الظن الغالب للعدوى ممنوعة، إما على سبيل الكراهة أو التحريم تبعًا لدرجة احتمال العدوى، والأحاديث تُحذِّر من التعرض للعدوى والتسبب فيه. روى مسلم أن النبي ﷺ قال لرجل مجذوم جاء يبايعه ” إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ ” وقال – كما رواه البخاري ” فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ “.

ومن أجل النهي عن الضرر والضِرار حرَّم الإسلام على حامل ميكروب المرض أن يخالط الأصحاء، أو يتسبب في الإصابة بالمرض بطريق مباشر أو غير مباشر، ولذلك حرَّم البصاق في الطريق والأماكن العامة، وحرَّم التبول والتبرز في موارد المياه ومواقع الظل وكل ما يرتاده الناس، وأمر بإبادة الحشرات والهوام وكل ما يؤذي حتى لو كان أثناء الإحرام.

ومما يؤثر فيما يتصل بالسؤال ما رواه مالك أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رأي امرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها: يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تُؤْذِي النَّاسَ لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ! فَجَلَسَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي، فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا.

وقد راعت السلطات السعودية هذا فمنعت في عام 2001 مواطني دولة أوغندا من دخول الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج نتيجة انتشار مرض إيبولا القاتل في البلاد، كما ألزمت عددا من الدول الموبوءة وفقا لآخر نشرات منظمة الصحة العالمية، بتقديم شهادة تطعيم ضد الحمى الصفراء سارية المفعول، وشهادة أخرى تفيد بإبادة الحشرات والبعوض على الطائرات القادمة من هذه الدول، وتقديم شهادة تطعيم ضد الحمى الشوكية (بلقاح A/C) بمدة لا تقل عن عشرة أيام ولا تزيد عن ثلاث سنوات، كما يمنع حجاج هذه الدول من جلب أي مواد غذائية معهم.

على أننا إذا افترضنا أنه بإمكان السلطات المنظمة لفريضة الحج من أخذ الإجراءات والاحتياطات التي تمنع من نقل العدوى من المصابين بها لغيرهم من الأصحاء كأن تعزلهم في مكان خاص بهم في عرفة مثلا، وتوفر لهم طوافا وسعيا آمنا كأن تحدد لهم وقتا خاصا بهم أو مكانا خاصا بهم، وفي الرمي ينيبون عنهم من يرمي لهم، فإذا كانت الحال هكذا فإن فريضة الحج لا تسقط عن المصاب بالمرض المعدي.

الإحصار بالمرض المعدي:

إذا أحرم الحاج بالحج أو قصد العمرة ثم أصابه مرض من الأمراض المعدية وكان قد اشترط عندما نوى أنه إذا منعه مانع أو حبسه حابس فمحله حيث حبسه الله، فإنه يحل من هذا الإحرام بلا فدية، وذلك لحديث ضباعة بنت الزبير المتفق عليه، حين دخل عليها النبي ﷺ فقال لها” لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً. فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي”

أما إذا لم يشترط هذا الشرط فله أن له يتحلل من إحرامه، وعليه الهدي، لقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة:196] على رأي جمهور الفقهاء.

أمَّا السادة المالكية فقالوا: لا يجب عليه الهدي، يقول الشيخ السيد سابق رحمه الله في كتابه “فقه السنة”:

قال الله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)، فالآية صريحة في أن على المحصر أن يذبح ما استيسر من الهدي.وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبي ﷺ قد أُحصر فحلق، وجامع نساءه، ونحر هديه، حتى اعتمر عامًا قابلاً.رواه البخاري.

وقد استدل بهذا الجمهور من العلماء على أن المحصر يجب عليه ذبح شاة أو بقرة أو نحر بدنة.

وقال مالك: لا يجب، فإنه لم يكن مع كل المحصرين من الصحابة هدي، وهذا الهدي الذي كان مع النبي ﷺ ساقه من المدينة متنفلاً به، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)، والآية لا تدل على الإيجاب.

الحج والوباء:

إذا أصاب – لا قدر الله – أرض الحجاز مرض من الأمراض المعدية فهل يمنع الحج حتى لا ينتقل الوباء منها إلى غيرها من البلاد، علماء الأزهر في مطلع القرن العشرين قد اجتمعوا وناقشوا هذه المسألة وانتهوا إلى رفض أن يكون الوباء في مكان الحج مانعا من أداء الفريضة، وخصصوا الحديث المانع من الانتقال إلى أرض العدوى بأنَّ أداء فريضة الحج أقوى من المنع من الانتقال إلى أرض العدوى.

جاء في مجلة المنار للأستاذ محمد رشيد رضا:

اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى، وإرسالها إلى مجلس النظار، وهي بحروفها:

” الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعًا.

وأمَّا النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا. وأيضًا فإنَّ النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اه-. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2 ذي القعدة سنة 1316 “.

على أننا بإمكاننا أن نطبق في هذه الحالة ما قلناه في الإحصار بالحج من أن الحاج إذا نوى عند بدء حجه أنه إذا منعه مانع أو حبسه حابس، فمحله حيث حبسه الله، فإنَّه يحل من هذا الإحرام بلا فدية، أمَّا إذا لم يشترط فعليه أن يتحلل وأن يقدم الفدية على رأي الجمهور.

هذا إذا نظرنا للمسئولية الفردية لمن أراد الحج، على أننا لا نجد مانعا يمنع من أن تصدر السلطات المنظمة للحج في المملكة العربية السعودية قرارا بعزل أي منطقة أو منع أي حاج من الحج في حال وجود مرض معد خطير من شأنه أن يهدد سلامة الحجاج وسيتسبب في نقل الوباء إلى بلدان العالم الإسلامي وغيرها من بلاد العالم المختلفة، وذلك لأن تنظيم حركة الحجيج داخل الأراضي المقدسة تقع كاملة على السلطات المنظمة للحج في المملكة كما أن من الواجبات التي تقع عليها ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين سلامة الحج والحجيج.

وأما الدعوى إلى إلغاء فريضة الحج بالكلية نظرا لظنون متوهمة فإنه أمر لا يقبل، على أن سلطات كل دولة عليها أن تراقب موانيها وأن تفرض الحجر الصحي على من ظهر عليه أعراض المرض.

والحاج إذا خشي من إصابته بمرض من الأمراض المعدية التي تنتقل في الهواء، وأراد أن يلبس كمامة لهذه الحاجة فلا حرج عليه.

أما المرأة فلها أن تلبسها لهذه الحاجة المعتبرة شرعا، ولكن عليها أن تخرج فدية، وذلك لأن المحرم إذا احتاج إلى فعل محظور من محظورات الإحرام فعله وافتدى فدية أذى كما قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

والفدية هي: شاة تذبح بمكة وتوزع على المساكين هناك، أو صوم ثلاثة أيام، أو التصدق بثلاثة صاعات من طعام، على ستة مساكين ويكون ذلك في مكة أيضاً.

والله أعلم.

⇐ وهذه المزيد من الفتاوى أيضًا:

أضف تعليق

error: