أحمد لن يتزوج منى

منذ وقعت عيناه عليها شعر بشيء يشده إليها، لم تكن على قدر كبير من الجمال، لكن جمالها كان كافيا لإقناعه بأنها هي مَنْ يبحث عنها، هكذا هم الناس في تقييمهم للجمال، كل يشترط في نصفه الآخر مواصفات عالية، لكنهم يرضون بالقليل عندما يخفق القلب بعيد النظرة الأولى.

وكما يقول مثل أمريكي: “أنت لا تحب امرأة لأنها جميلة، لكنها جميلة لأنك تحبها”، لم يكن للجمال يوما معايير كونية، وقد قيل إن الجمال أمر نسبي، وما يراه شخص ما جميلا، يبدو في عين آخر باهتا أو دميما.

عين الرضا

ربما تتفوق الجاذبية أو الملاحة على الجمال، وأهل نجد يقولون: “تنازع الملح مع الزين، فتزعزع الزين بحمُوله”، والحب لا يعترف أصلا بالجمال.

وفي الحديث: “حبك الشيء يعمي ويصم”، ويقول الشاعر:

وعينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة
ولكنَّ عينَ السخط تُبدي المساويا

بل قد تتحول عيوب الحبيب في عين محبه إلى مناقب، هكذا نظر أحمد إلى منى، لقد شغفته حبًّا بجمال روحها لا بجمال ملامحها، لكن حتى ملامحها نالت إعجابه، ولا سيما أنه رآها على طبيعتها، فلم تكن تضع المساحيق على وجهها، تمتم في نفسه: أتكون هذه المرأة حبيبتي التي أتوق إليها؟ أتكون ضالتي التي أبحث عنها؟

الآن.. وليس غدا!

تحدث إليها، فوجد مخبرها يوائم مظهرها، وجهها المألوف الذي تغمره السماحة ينطق ببساطتها ورقتها، عاش “أحمد” حياته عفويًّا مرهف الحس؛ ولذا كان دائما يبحث عن لداته، ويرى نفسه في البسطاء من الناس.

شدته ببساطتها وأناقتها معا، أحمد يحب الأناقة أيضا، والقلب يعشق كل جميل، لكن المشكلة أن منى فتاة في الـ26 من العمر، وأحمد أطفأ 40 شمعة من عمره المديد السعيد، والطامة الأكبر أنه متزوج، ولديه أربعة أطفال، وربما يطل الخامس في أي لحظة.

كان أحمد يبحث عن مُناه منذ زمن، وعلى الرغم من إيمانه العميق بالتعدد، فإنه لم يقدم عليه خوفا من عواقبه، بيد أن أحمد شعر أن الزمن يجري، وأنه إن لم يفعلها الآن، فربما لن يفعلها أبدا، أو ربما لن يجد أصلا من الحسناوات من تهواه وتخطب وده.

منى رائعة بكل المقاييس، إنها تناسبه وتصلح له، إنها ذكية، لماحة، متحدثة، لبقة، مرحة، ومثقفة، ربما تكون منى نقطة التحول، هكذا سولت له نفسه، كان في السابق يريد مقاسا محددا لفتاته، ومع أن منى لم توافق هذا المقاس تماما، لكن ذلك لم يعد مهمًّا، فقد حصدت إعجابه، والمهم أنها كسبت قلبه.

لقد أحب كل شيء فيها: قسماتها، نظراتها، كلامها، ضحكتها، “مش قادر ينسى ضحكتها”.. إنه هذا السر العميق للحب الذي يجعل المحبوب “حلوًا” كله، و”مهضومًا” كله، أو ما يسمونه في اللغة الإنجليزية (Chemistry)، وهي كلمة استعيرت من عالم الكيمياء ووظفت في مجال العلاقات الإنسانية، عندما تنجذب روح إلى أخرى، يحدث هذا التفاعل الكيميائي الذي يقود إلى الامتزاج والتماهي، أو كما جاء في الخبر: “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”.

الحب قبل النظرة الأولى

باختصار، أحبها أحمد منذ النظرة الأولى، أو بحسب تعبير “أحلام مستغانمي” قبل النظرة الأولى؛ ذلك لأن طيفها كان يداعبه منذ زمن، ومعالمها كانت تلح عليه، حدثها وحدثته، كانت غاية في التهذيب واللطف، وهذا ما زاده تمسكا بها.

أكثر ما لفت نظره أنها كانت ترشده إلى قراءة كتاب أو رواية، أو الاطلاع على موقع إلكتروني، أو مشاهدة قرص مكتنز، كان الكثير من “نصائحها” معروفا لديه، لكنه لم يشعر قط أنها تمارس أستاذية عليه، أو تعامله بنوع من الفوقية، بل كان يسر بطريقتها، ويأنس لحرصها على إتحافه بكل ما لديها من جديد، لطفها ورقي أسلوبها بعثا في نفسه البهجة والارتياح، ربما ظن خطأ أنها تبادله الشعور ذاته، وربما كانت هي تريد أن توهمه بذلك، أو “تتسلى” بمشاعره، لكن هل يعقل أن تلجأ إلى مثل هذا الأسلوب وهي التي تضم بين جوانحها قلبا مليئا بالحب، مترعا بالحنان؟

ذات يوم، قرر أن يستجمع أطراف شجاعته، ويحدثها بقصته، قصة حبه التي يريد لها أن تنتهي بالزواج، لكن لماذا يستخدم كلمة “تنتهي”؟ الحب الحقيقي لا يمكن أن ينتهي، ليستخدم إذن عبارة أفضل: “قصة الحب التي يريد أن يتوجها بالزواج”، ما أجمله من تتويج، إذا كانت تحبه كما يحبها فليس ثمة خيار أفضل من الزواج ليكون وعاء لهذا الحب.

استدعى أحمد تقدير الإسلام لهذا المعنى، مستحضرا من السنة ما صح أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندنا يتيمة، وقد خطبها رجل معدم ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر، فقال النبي الكريم: “لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح”.

تخيل أحمد حبيبته وهي في فستان الزفاف بجانبه، والورود والابتسامات والرقصات تحيط بهما من كل صوب، سيكون ليلتها أسعد الرجال، هكذا غرق في أحلام اليقظة، وانثالت إلى مخيلته الصور، سيحدثها بالأمر، لكن يجب أن يجلب إليها هدية مناسبة، لتكون عربون وفاء،

كان أحمد رومانسيًّا حتى النخاع، لكنه للأسف لم يختر وردة حمراء ليقدمها إلى حبيبته، بل اختار كتاب شعر، وسطر على صفحته الأولى البيت القائل:

لا تنظرنَّ إلى صغير هدية
بل فانظرنَّ لقلب من أهداها

قدمه إليها مبتسما، فسألته: ما هذا؟ أجاب: هدية رمزية، كتاب شعر، ضحكت، وقالت: كيف عرفت أني أحب الشعر؟ أجاب: لقد قرأتك قبل أن تقرئيني، ابتسمت قائلة: كلك ذوق يا أحمد.

فجوة أجيال

فاتحها بالأمر، فأبدت استغرابها، وقالت: “أنت فهمتني غلط”، أبدت منى معارضتها لفكرة الزواج من رجل “كبير” قائلة: الفرق بيننا فجوة أجيال.

– فجوة أجيال؟ ليه أنا عجوز؟ أنا لا أتوكأ على عكازات، ولا أستخدم طقم أسنان، وليس في عينيَّ ماء أبيض.

– لم أقل إنك عجوز، لكنك في الأربعين.

– وإيه يعني؟ الأربعون سن العطاء والنضج، الأنبياء بعثوا في هذه السن.

– لكنك تظل أكبر مني بمراحل.

– أنا لا أستطيع أن أنكمش أو أصغر، لا أستطيع أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

– هبني اقتنعت بسنك، فكيف لي أن أقتنع بكونك مرتبطا بأخرى؟

– وما العيب في الأمر؟ رب مُعدِّدٍ أفضل من أعزب، ورب كبير أفضل من غر لا يفقه من أمر الحياة شيئا، “وبعدين”، لماذا لا تنظرين إلى الأمر نظرة أكثر شمولا وتوازنا.. هناك إيجابيات كثيرة لدي ترجح بهذه السلبيات.

– المرأة تشعر أن حب الرجل مثل فرشاة الأسنان لا يمكن الاشتراك فيها.

– هذا مجرد وهم، الحقيقة أن قلب الرجل كالفناء الرحب يمكن أن يتسع لأكثر من امرأة.

– لن تكون معي كل ليلة، سأفتقدك ليلة وجودك مع زوجتك.. لا أستطيع تخيل ذلك.. سأشعر أنني بين نارين: نار الوحدة ونار الغيرة، كيف تضم امرأتين إلى صدرك، وتقول لكل منهما: يا حبيبتي؟

– يا منى افهميني، هذه لي لا عليّ، صدقيني غيابنا عن بعضنا سيجعلنا نشتاق أكثر إلى اللقاء.. دوام القرب يورث الملل، ألم يقل ابن الوردي:

غِبْ وزرْ غِبًّا تزدْ حبًّا فمنْ *** أكثرَ التردادَ أضناه المللْ

– لكني أيضًا لن أستطيع منافسة أم أولادك وشريكة حياتك، وأبو تمام يقول:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول

والمصريون يقولون: “القديمة تحلى، ولو كانت وحلة”!

– لماذا المنافسة أصلا؟ لكل واحدة دورها ومكانها، ثم إن هناك من رد على أبي تمام بالقول: “ما الحب إلا للحبيب المقبل”، وللجديد سحره وحلاوته..

– أحمد، أنت رجل رائع، لكن اعذرني، لا أستطيع أن أكون ثانية.

لا بد من منى

تبخر حلم أحمد على صخرة الرفض التي وضعتها منى في طريقه، لم يكن يتوقع أن تصده بهذا الإصرار، راودته نفسه أن يعيد الكرة محاولا إقناعها، فمنعته كبرياؤه أن يفعل. قرر أن ينأى بنفسه عنها، ويبدأ رحلة البحث عن منى أخرى، لا بد من أخرى وإن طال السفر، لكن أين سيجدها؟ النساء كثيرات، لكنهن كإبلٍ مائة لا تجد فيهن راحلة.. أو كما قال خال أحمد له يوما: “يا كثرهم يا قلهم”!

بعد برهة من الزمن، تزوجت منى، ارتبطت برجل أعمال يملك من المال ما لا يملكه أحمد، كان يكبرها بست سنوات فقط، وهو الفرق المثالي في نظر منى، عاشت منى شهر عسل رائعا، ومكثت في بيت زوجها شهرين يتيمين، ثم طلبت الطلاق.

كان الرجل (الصغير) متزوجا، لكنه أخفى عنها الحقيقة، ولم تجد إلا الطلاق حلا للهروب من خدعته القاسية.

بقلم: د. أحمد بن راشد بن سعيد

⇐ طالع المزيد أيضًا عزيزي القارئ:

أضف تعليق

error: