خطبة جمعة مكتوبة عن التسول.. وكيف تناول الإسلام هذه الظاهرة

خطبة جمعة مكتوبة عن التسول

ومع تفشّي هذه الظاهرة كان لابد للعلماء والفقهاء والخطباء من وَقفة. وهنا نضع لك ولهُم خطبة جمعة مكتوبة عن التسول. يبيّن من خلالها الخطيب كيف تعامل وتناول الإسلام هذه الظاهرة.

نأمَل أن تنال هذه الخطبة استحسانكم وإعجابكم، وأن تُساق إلى المسلمين في المساجد ودروس العِلم والمحاضرات، فينتَفع بها الجميع؛ أئِمَّة ومأمومين.

مقدمة الخطبة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا | يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله ﷻ. وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. جنبنا الله وإياكم البدعة والضلالة والنار. كما نسأله سبحانه الهداية والإخلاص والقبول والجنة.

الخطبة الأولى

أيها الإخوة الكرام. حديثي إليكم اليوم -إن شاء الله- تعالى عن داء التسول. نعم. ظاهرة وللأسف الشديد قد بدت في المجتمع واضِحة جليّة، ونسأل الله السلامة والعافية.

حينما يُدعى الناس إلى الزكاة وإلى التصدق فليس في هذا -البتّة- فتح لمجال التسول الممقوت؛ سلمنا الله وإياكم. بل المؤمن عليه أن يتعفف عن سؤال الناس. فإن سؤال الناس وطلب أموالهم لا يجوز إلا لصاحِب ضرورة أو حاجة تقترب من الضرورة.

وقد صرَّح غير واحدٍ من أهل العلم بتحريم ذلك من عدة أوجه؛ من ذلك أن الذي يفعل ذلك يُظهِر الشكوى من الله سبحانه. فهو يشكو الله ﷻ ويقول: بي كذا وكذا. ويُظهِر ذلك علنا أمام الناس.

كذلك؛ فالذي يفعل هذا يُذِل نفسه للناس. ولا يجوز في الأصل أن يَذِل أو أن يُذِل إنسان نفسه لغير الله ﷻ.

ثم إنه يؤذي من يسأله دونما ضرورةٍ أو حاجة. والإيذاء مُحرَّم، ولا يجوز لمسلم أن يؤذي أخاه المسلم.

لذلك؛ أيها الإخوة الكرام. جاءت النصوص متضافرة في ذم التسول لمن لا يستحق ذلك وممن يطلبه بلا ضرورة ولا حاجة. وحرمت ذلك تحريما أكيدا. وبيَّنت أن الذي يفعل ذلك فإنما يسأل لنفسه جمرًا من نار جهنم؛ نسأل الله السلامة والعافية.

وقد جاء في صحيح الإمام مُسلم، أن النبي ﷺ قال «من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا فليستقل، أو ليستكثر». من شاء أن يستكثر من جمر جهنم فليستكثر بكثرة سؤاله للناس. نسأل الله السلامة والعافية.

وعن عقاب المتسول يوم القيامة نجد في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه ﷺ قال «ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم». هذا اللحم قد ذهب. ما الذي أذهبه؟ الذي أذهبه سؤال الناس؛ نسأل الله السلامة والعافية.

أيها الكرام؛ الأصل ألا يسأل أحد أحدا شيئا من أمور الدنيا. وقد كان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يبايعهم النبي ﷺ على ذلك. فها هو في صحيح الإمام مسلم من حديث عوف بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال: كنا عند النبي ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال النبي ﷺ «ألا تبايعون رسول الله؟» قالوا: قد بايعناك يا رسول الله. فكررها ﷺ. فبسطوا أيديهم -وكانوا حديث عهد ببيعة- فقالوا: نبايعك يا رسول الله؛ فعلى ما نبايعك؟ فقال ﷺ «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وأطيعوا -يعني على الطاعة-» وقال كلمة فأسرها وهي «ألا تسألوا الناس شيئا».

أرأيت؟ إنه حديث النهي عن التسول بغير حاجة يسوقه لنا رسول الله ﷺ. هؤلاء الصحابة يبايعزن النبي على ألا يسألوا الناس شيئا. قال عوف: فلقد رأيت هؤلاء النَّفر يسقط السوط من أحدهم فلا يسأل أحدًا من الناس أن يرفعه إليه. أي: إذا وقع السوط من واحد منهم لا يطلب من أحد أن يرفعه إليه. فكيف يسأله مالا ونحوه.

إنهم تعففوا وأخذوا بوصيَّة الرسول ﷺ «وألا تسألوا الناس شيئا».

وقد قال ﷺ كما في حديث ثوبان مولى رسول الله ﷺ «من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة؟» فقال ثوبان: أنا. قال: فما سألت أحدا شيئا بعدها.. كان لا يسأل الناس شيئا. ولا يطلب منهم شيئا. إنما يتعفف عن سؤال الناس.

أيها الإخوة الكِرام؛ المؤمن العاقل الذي لديه قدرة على الكسب عليه أن يتكسَّب، وأن يأكل من حلال، وأن يتعفف، وأن يُعِف نفسه وعياله. وأي عمل حلال يعمله الإنسان خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أن منعوه. وقد قال النبي ﷺ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه ﷺ قال «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره؛ خير له من أن يأتي رجلا، فيسأله، أعطاه أو منعه». لأن يجمع الإنسان الحطب ويضعه على ظهره ويبيعه للناس؛ خير له من أن يسأل أحدًا أعطاه أم منعه.

هكذا يعلمنا ﷺ يعلمنا أن نكتسب من حلال، وأن نعمل من حلال. لا أن نأكل أموال الناس بالباطل. ولا أن نسأل الناس ما لديهم.

وها هو ﷺ أتاه رجلان يسألانه الصدقة. فقلَّب النبي ﷺ نظره فيهما، فوجدهما جلدين -شابين قويين يستطيعان العمل- فقال ﷺ «إن شئتما أعطيتكما» وهذا أسلوب تهديد كما قال كثير من الشراح «ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب». القوي المكتسب الذي يقوى على الكسب ويقوى على العمل لا يجوز له يسأل الناس. إنما يسعى جاهدا في أن يعمل قليلا أو كثيرا قدر المستطاع حتى يحقق ما يكفيه ويكفي عياله بفضل الله ﷻ.

ألا تعلم أخي الكريم أنَّ الذي يُنفِق كل ما له أو أن الذي يوصي بجميع ما له ويترك ورثته عاله يتكففون الناس مخالف للرسول ﷺ؟

ها هو سعد أبي وقاص -رضي الله عنه- يعلمه نبينا ﷺ أن ذلك لا يجوز، ويدله على ما هو خير له. فيقول سعد -رضي الله عنه-: عادني النبي ﷺ عام حجة الوداع من وجعٍ اشتد بي. فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع -أي وجع شديد- ولا يرثني إلا ابنة -ليس لي من الورثة إلا بنت-. أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال «لا». قال فالشطر؟ قال «لا». قال فالثلث؟ قال «الثلث كثير، أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك».

المؤمن العاقل هو الذي يكتسَّب ويجتهد ويأكل حلالا ويجمع من حلال. فـ«نعما بالمال الصالح مع الرجل الصالح». هكذا علمنا نبينا محمد ﷺ.

بعض الناس -أيها الإخوة الكرام- لا يتقي الله في هذا الأمر. يكون لديه ما يكفيه، ومع ذلك يسأل الناس. واتخذ سؤال الناس عادة، واتخذ سؤال الناس أمرًا يصِل به إلى أموالهم.

أقول له: اتق الله. فإنما تفعل حرام لا يجوز لك. فقد نهى النبي ﷺ أن يسأل الرجل الغني المال الذي لدى الناس. قالوا له -كما في حديث سهل بن الحنظلية “رضي الله عنه”-: يا رسول الله ما قدر ما يغنيه؟ من الذي يقال له معه ما يكفيه؟ فلا يسأل الناس. فقال «قدر ما يغديه ويعشيه». الله أكبر. الذي لديه ما يغديه ويعشيه لا يسأل الناس. وجاء في رواية قال «خمسون درهما». الذي لديه خمسون درهما، لا يسأل الناس. إنما يتعافى ويتكسَّب. فإن احتاج بعد ذلك فإنه يسأل وحينئذ يدخل في قول الله ﷻ ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين. صلوات الله وتسليماته عليه.

أما بعد؛ فيا عباد الله. لا يجوز للمسلم الغني أن يسأل الناس شيئا. ولا للقوي أن يسأل الناس، ولا للمكتسب. وقد قال ﷺ «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي». هذا المستوى في الخلقة والقوة، ذو المنظر الحسن، الذي يقوى على العمل. لا يسأل الناس شيئا؛ وإن سأل الناس فإنما يسأل جمرًا من نار جهنم؛ نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك أيها الكرام؛ وجب على المسلم أن يعمل وأن يكتسب الحلال وألا يتواكل. فإن التوكل على الله ﷻ أخذ بالأسباب مع اعتقاد أن الله ﷻ هو الرزاق. أما من يجلس بلا عمل بدعوى أن المال سيأتيه إليه، فهذا ليس بمتوكلٍ على الله ﷻ كما ينبغي.

وقد قال النبي ﷺ «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته. ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». إما أن يموت فيستريح من هموم الدنيا. وإما أن يغنيه الله ﷻ من فضله.

واعلم أخي الكريم أن من يستعِف عن أموال الناس تكون عفته سببا في إعفاف الله له وإغناء الله ﷻ له. وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- كما في الصحيحين. أن ناسا سألوا النبي ﷺ. فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم. حتى نفذ ما عنده ﷺ. فقال «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر».

نعم. من يستعفف يعفه الله. من يسأل الله ﷻ فالله يرزقه. يقول الله ﷻ في سورة البقرة ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وقال الله ﷻ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا | وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾.

وقد قال النبي ﷺ لحكيم بن حزام -رضي الله عنه- كما في الصحيحين، وقد سأل النبي ﷺ فأعطاه؛ ثم علمه النبي ﷺ فقال له «إن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس له لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى».

أيها الإخوة الكرام. ما أحوجنا إلى أن نعلم أن الرزاق هو الله ﷻ. وأن هذا يقتضي منا أن نتوجه إليه وأن نعلم أن أسباب الرزق هي الأسباب المشروعة. ولا يحملن استبطاء الرزق على أن نطلبه بمعصية الله. فإنما عند الله ﷻ لا ينال إلا بطاعته.

لا تحسبن إذا أخذت من هذا وذاك بغير حق أنك ستصير غنيا من الأغنياء. لا والله. يقول النبي ﷺ في الحديث الشريف «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».

ومع هذا كله أقول إخوتي الكرام. لا يعني هذا أن كل من يسأل الناس يكون قاصِدا بذلك الحرام. بل من الناس من يسأل الناس لشِدة حاجته. لذلك، فعلى المسلم أن يتقي الله في أخيه، وألا يدع أخاه يسأله. بل إذا علِم واحدٌ منا من أخيه الفقر وعلِم منه الحاجة فعليه أن يعود عليه بالخير. ويقول الحبيب المصطفى ﷺ «من كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له».

واعلم أخي الكريم أنك إذا أعطيت صدقة لشخص من الأشخاص. فتبين لك أنه لم يكن أهلا للصدقة. فإن هذا لا يضرك. فصدقتك صحيحة بإذن الله ﷻ. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين في قصة الرجل الذي تصدق على سارق وتصدق على غني وتصدق على زانية. فلعل الزانية تتوب إلى الله، ولعل الغني يعتبر فيتصدق، ولعل السارق يصير عفيفا بإذن الله ﷻ.

الدعاء

أيها الإخوة الكرام. هكذا ينبغي أن نكون؛ ألا نسأل الناس شيئا. وإنما نتوجه إلى الله ﷻ بالسؤال. فنقول يا رزاق ارزقنا.

ونسأل الله الكريم من فضله.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والعزيمة على الرشد والفوز بالجنة والنجاة من النار.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

اللهم أصلح ولاة أمورنا وولي أمورنا خيارنا.

اللهم احفظ مصرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اجعل مصرنا واحة للأمن والأمان والسلم والسلام، وسائر بلاد الإسلام.

سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وأقم الصلاة.


والآن، تمَّت هذه الخطبة المباركة التي عنونَّاها بـ: خطبة جمعة مكتوبة عن التسول؛ وكيف تناول الإسلام هذه الظاهرة. والتي ألقها فضيلة الشيخ أبي عبيدة محمد بن حامد -حفظه الله وبارك فيه وجزاه خيرا-.

وقد وفَّرنا أيضًا خُطبًا لهذا الموضوع من قبل؛ ومنها:

فنسأل الله العليم ﷻ أن تنتفعوا بكل ما نقدمه لكم من خطب مكتوبة في موقع المزيد. وإذا أردتم الخطبة في ملف بصيغة PDF فلا تترددوا في طلبها بالتعليقات أدناه، وسنعمل -بحول الله وقوته- على توفيرها لكم.

أضف تعليق

error: