خطبة الجمعة عن الإيمان بالقدر خيره وشره

خطبة الجمعة عن الإيمان بالقدر خيره وشره

مقدمة الخطبة

الحمد لله القاهر فوق عباده، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال وقوله الحق: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله المصطفى، خير من رضي وأرضى، وأعظم من آمن بالقدر والقضاء، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه أولي الفضل والنهى.

الخطبة الأولى

أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله العظيم واشكروه، فإن التقوى وصية ربكم لكم فلا تكفروه، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾، واعلموا رحمكم الله أن الله ﷻ متصف بالعلم المطلق، والإرادة الشاملة، والقدرة الكاملة ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

وإيمان الإنسان بهذه الحقيقة يدفعه إلى تعميق اليقين بأن ما يقع عليه من خير أو شر فإنه موصول بقدرة الله ﷻ وإرادته، ومشمول بعلمه سبحانه وإحاطته، فلا مفر من قدر الله ﷻ؛ فإنه واقع، وما يأذن به سبحانه فهو آت ﴿مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾، إلا أنه جل وعلا خلق للعباد أفعالا أمرهم بالأخذ بصالحها ونهاهم عن التمسك بسيئها ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.

أيها المؤمنون: يقول رب العزة والجلال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، وأي تكريم أعظم من جعلهم أصحاب عقول يفكرون بها، ويستنيرون في دربهم بنورها، ثم جعلهم سبحانه أمناء على حياتهم ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.

فالإنسان مسؤول أمام خالقه عن كل ما يؤدي إلى الضرر وإزهاق الأرواح والوقوع فيما حرم الله ﷻ من فعل الآثام، ومسؤول عن العهد الذي بينه وبين الله من عدم الوقوع في المخالفات، قال ﷻ: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾.

وهل إزهاق المرء لروحه أو روح إخوانه، أو إصابتها بالأذى حفاظ على العهد مع الله، وإيمان بقدره جل في علاه؟! كيف والله ﷻ قبح فعل بني إسرائيل لقتلهم أنفسهم بعد أخذ العهد منهم ألا يسفكوا دماءهم، فقال جل جلاله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، وقد بين النبي ﷺ عاقبة من تسول له نفسه إزهاق روحه ظلما وعدوانا، فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم».

أيها المسلمون: يظن البعض أنهم مسيرون في اختياراتهم، ملزمون بأفعالهم، وأن ما يأتونه من الشر في حقهم أو حق إخوانهم وأبناء جلدتهم مجبرون عليه لأن الله ﷻ قضاه وقدره لهم، وهذا غبش في التصور، وإساءة لله الخالق المصور، فالله ﷻ لا يأمر بالفحشاء، ولا يدعو إلى الباطل، ولا يشجع على فساد، يقول الله ﷻ: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

وإذا نظر المنصف وجد أن الله ﷻ يأمر بما يجلب الخير ويحقق المصالح للعباد، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «قال الله ﷻ: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما؛ فلا تظالموا»، ويقول الله جل جلاله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فهل من العدل إزهاق الأرواح؟! وهل من الإحسان التعدي على حرمات الناس وممتلكاتهم؟! أليس نهيه ﷻ عن الفحشاء والمنكر والبغي دليلا على تحريمه الظلم ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.

عباد الله: قد يصاب المرء في حياته بما يجلب له الضيق وأنواع المكاره، ويدخله في دوامة التفكير بالعواقب، وليس ذلك بمنأى عن أي أحد من الناس، فالله ﷻ يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، والنبي ﷺ يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي».

فغاية ما يقع على الإنسان من ألوان المصاعب، وصنوف المنغصات أنها اختبار له من ربه جل وعلا، وهو مأمور بالصبر؛ لأن عاقبته خير، وهو سمة المتقين، وجزاؤه معية رب العالمين، وبركته في الدنيا وفي يوم الدين، والله ﷻ يقول: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

وأما من أخذت به عزة نفسه ناحية الإثم، وقادته إلى فساد الأفعال، متحديا رب العزة والجلال، فإنه ﷻ قد قال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ﴾.

فاتقوا الله –عباد الله–، وتذكروا قول الله ﷻ: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

وهذه أيضًا خطبة عن خطر الإلحاد وسبل مواجهته – مكتوبة

الخطبة الثانية

الحمد لله ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه المقتفين آثاره وخطاه.

أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله–، واعلموا أن ما يقع على العبد من خير أو شر هو قدر الله الغالب، وأمره الذي لا يرد، وأن على المرء أن يسلم أمره لله جل وعلا مستجيبا لأمر النبي ﷺ حين قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن [لو] تفتح عمل الشيطان».

وتذكر – عبد الله – أمره ﷻ: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، فما من مصيبة إلا بيد الله كشفها، ولا هم إلا عند الله زواله، يقول الله ﷻ: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، ومع يقينك بأن المخلص هو الله خذ بأسباب النجاة، فإن من حسن التوكل على المولى القدير أخذك بدواعي حصول الخير.

ولا تقل إن الله ﷻ قضى علي أمرا فتنتظر تحققه تكاسلا عن الأخذ بالأسباب، فإن قضاء الله أمر غيبي، والأخذ بالأسباب أمر تكليفي لا بد منه، واعلم أن الله ﷻ أمر مريم عليها السلام وهي في أحلك الظروف أن تستعين به وتتخذ أسباب النجاة فقال: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾، وتأكد أن الأسباب المأمور باتخاذها ما ييسر لك بأمر الله حسن العاقبة، والسلامة من فساد حياتك في الدنيا والآخرة ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

فاتقوا الله –عباد الله–، وربوا أنفسكم على الرضى بقدر الله، ودربوها على عدم اليأس والقنوط من روح الله ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.

كذلك؛ هنا خطبة: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون – مكتوبة

أضف تعليق

error: