مع ملف pdf للتحميل.. خطبة مشكولة عن رحلتي الإسراء والمعراج

مع ملف pdf للتحميل.. خطبة مشكولة عن رحلتي الإسراء والمعراج

لدينا خبرين سارّين هنا؛ الأول أن خطبة اليوم عن رحلتي الإسراء والمعراج ستكون مشكولة بالكامل، لكل من يريدون خُطَب الجمعة بالتشكيل. والثاني أن الخطبة ستكون متوفرة في ملف pdf قابل للتحميل المجاني من موقع المزيد.كوم، برابط مباشر؛ حتى يتمكن الأئمة والخطباء من تنزيله ومن ثم الاطلاع عليه بدون انترنت، أو حتى طباعته أو مشاركته عبر مجموعات الواتساب أو الفيس بوك أو تليجرام الخاصة بالخُطَب..

فهيا بنا بداية مع المحتوى النَّصّي للخطبة..

مقدمة خطبة عن الإسراء والمعراج

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالبَلْوَى، وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ العُلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَزْكَى الوَرَى، وَخَيْرُ مَنْ وَطِئَ الثَّرَى، المَبْعُوثُ بِالحَقِّ وَالرَّحْمَةِ وَالهُدَى، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الأَحْلامِ وَالنُّهَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اهتَدَى.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ–، فَإِنَّ التَّقْوَى جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.

الخطبة الأولى

وَاعْلَمُوا –أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ– أَنَّ مَا يَمُرُّ بِالإِنْسَانِ فِي الحَيَاةِ مِنِ ابتِلاءَاتٍ لَهُوَ تَأْكِيدٌ لِسُنَّةِ التَّمْحِيصِ الَّتِي لا تَتَبَدَّلُ، وَلا تَزُولُ أَوْ تَتَحَوَّلُ، قَالَ ﷻ: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ جَلِيٌّ أَنَّكَ –أَيُّهَا المُؤْمِنُ المُبَارَكُ– لَنْ تَسيرَ سَفِينَةُ حَياتِكَ إِلَى وِجْهَتِهَا دُونَ مَصَاعِبَ وَتَحَدِّيَاتٍ، وَفِتَنٍ وَابتِلاءَاتٍ، وَهَذَا مَا سَطَّرَهُ القُرْآنُ بَيْنَ أَيْدِينَا قَائِلًا: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.

فَبِالمُجَاهَدَةِ وَالصَّبْرِ يَرْفَعُ المُؤْمِنُ نَفْسَهُ إِلى مَقَامٍ عَالٍ عِنْدَ رَبِّهِ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.

وَالمُتَأَمِّلُ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ يُدْرِكُ مَا كَانَ يُوَاجِهُهُ مِنْ مَشَاقَّ وَتَحَدِّيَاتٍ، فَقَدْ أُوذِيَ بِسَبِّ المُشْرِكِينَ وَقُبْحِ رُدُودِهِمْ؛ يَقُولُ ﷻ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾، وَزَادَ الأَذَى شِدَّةً بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهِ المُؤْمِنَةِ الصَّابِرَةِ وَالمُحْتَسِبَةِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَمَوْتِ عَمِّهِ أَبي طَالِبٍ، الَّذِي اسْتَظَلَّ بِحِمَاهُ مِنْ مَكَايِدِ المُشْرِكِينَ حَتَّى قَالَ: «مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ».

فَعَزَّ النَّصِيرُ فِي مَكَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يَجِدَ سَبِيلًا آخَرَ فَتَوَجَّهَ إِلَى الطَّائِفِ وَعَرَضَ دَعْوَتَهُ عَلَى أَهْلِهَا، فَكَانَ رَدُّهُمْ قَاسِيًا وَرَفْضُهُمْ جَارِحًا، فَآذَوْهُ وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ حَتَّى رَمَوْهُ بِالحِجَارَةِ وَسَالَتِ الدِّمَاءُ مِنْ قَدَمَيْهِ ﷺ.

وَبَعْدَ هَذِهِ الشِّدَّةِ يَأْتِي الفَرَجُ، وَبَعْدَ هَذَا الضِّيقِ يَأْتِي المَخْرَجُ، فَبَعْدَ أَنْ لاقَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا لاقَى جَاءَتْ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ؛ لِتُخْبِرَهُ أَنَّ رَبَّكَ لَنْ يَخْذُلَكَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَنْسَاكَ وَلَنْ يَتِرَكَ عَمَلَكَ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ لَكَ –وَلِلْمُؤْمِنِينَ– مِنْ عَظِيمِ الابْتِلاءِ إِنَّمَا هُوَ سَحَابَةُ صَيْفٍ، وَلَمْحَةُ طَيْفٍ، وَأَنَّ الهَمَّ مَهْمَا طَالَ سَيَزُولُ، وَالمِحَنَ وَإِنْ تَوَالَتْ سَتُمْحَى ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: نَعِيشُ هَذِهِ الأَيَّامَ مَعَ آيَةٍ بَاهِرَةٍ وَمُعْجِزَةٍ ظَاهِرَةٍ وَحَادِثَةٍ عَظِيمةٍ نَشُمُّ شَذَاها، وَنَسْتَلْهِمُ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ ذِكْرَاهَا، إِنَّهَا حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، تِلْكَ الحَادِثَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَ المَوْلَى ﷻ الغَايَةَ مِنْهَا فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ حِينَ قَالَ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

وَهَذَا مَا حَصَلَ؛ فَقَدْ شَاهَدَ المُصْطَفَى ﷺ عَظِيمَ صُنْعِ رَبِّهِ، قَالَ ﷻ: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾، فَجَاءَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ لِيَرَى النَّبِيُّ ﷺ جَانِبًا مِنْ آيَاتِ اللهِ العُظْمَى، فَيَتَفَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلِ المُؤْمِنِ الَّذِي يُدْرِكُ أَنَّ تَأَمُّلَ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَطْمَحُ إِلَيْهِ المُخْلِصُونَ، وَمِنْ أَسْمَى مَا يَرْنُو إِلَى رُبَاهُ المُوَفُّونَ المُتَّقُونَ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ رَبِّ العَالَمِينَ: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.

وَإِنَّ مِنَ الحِرْمَانِ –يَا عِبَادَ اللهِ– أَنْ تَمُرَّ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَمْثَالُ هَذِهِ الآيَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّأَمُّلِ، ثُمَّ لا يُبَالِيَ بِهَا، وَلا يَرْجِعَ بَصَرَهُ إِلَيْهَا، أَلَا يَرَى أَنَّ فِي آيَاتِ اللهِ المَنْظُورَةِ مِنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ مَا يَجْعَلُ المَرْءَ مُسْتَجْلِيًا آثَارَ قُدْرَةِ اللهِ وَجَمِيلِ صُنْعِهِ وَإِحْكَامِ تَدْبِيرِهِ وَخَلْقِهِ، فَيَقْوَى إِيمَانُهُ وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ يَقِينًا وَقُرْبًا ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

أَيُّهَا المُتَدَبِّرُونَ: إِنَّ مَحَطَّةَ انطِلاقِ رِحْلَةِ الإِسْرَاءِ وَمَحَطَّةَ انتِهَائِهَا تُبَيِّنُهُما الآيَةُ الكَرِيمَةُ ﴿مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، وَفِي هَذَا مَا يَلْفِتُ نَظَرَ المُتَدَبِّرِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ المَسَاجِدِ وَعِظَمِ مَا يُقَامُ فِيهَا، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾، وَإِنَّ الصَّلاةَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَامُ فِي بُيُوتِ اللهِ مِنْ شَعَائِرَ؛ يَقُولُ رَسُولُنَا الكَرِيمُ ﷺ: «لِكُلِّ شَيْءٍ عَمُودٌ، وَعَمُودُ الدِّينِ الصَّلاةُ، وَعَمُودُ الصَّلاةِ الخُشُوعُ، وَخَيْرُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ».

فَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ غَرَسَ فِي ذُرِّيَّتِهِ حُبَّ الصَّلاةِ وَالمُوَاظَبَةَ عَلَيْهَا، مُطَبِّقًا بِذَلِكَ قَوْلَ المَوْلَى جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، فَلْنُذَكِّرْ أَبْنَاءَنَا بِهَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي اشْتَغَلَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِالمُلْهِيَاتِ مِنْ أَلْعَابٍ إِلِكْتُرُونِيَّةٍ، وَوَسَائِلِ تَوَاصُلٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَغَيْرِهَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

هَذَا وَإِنَّ مِنْ أَشْرَفِ المَسَاجِدِ –يَا عِبَادَ اللهِ– المَسْجِدَ الحَرَامَ وَالمَسْجِدَ الأَقْصَى؛ فَقَدْ شَرَّفَ اللهُ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَكَانَةٍ تُمَيِّزُهُ، وَتُعْلِي شَأْنَهُ، وَتَجْعَلُهُ مُعَظَّمًا عِنْدَ المُسْلِمِينَ، فَفِي المَسْجِدِ الحَرَامِ البَيْتُ الحَرَامُ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَفِي المَسْجِدِ الأَقْصَى البَرَكَةُ وَلِلأَنْبِيَاءِ مُصَلًّى، وَهُوَ أَوَّلُ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الوَرَى، وَفِي رِحْلَةِ إِسْرَاءِ المُصْطَفَى إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ لأُولِي النُّهَى، فَوَاجِبٌ عَلَى المُسْلِمِينَ اتِّجَاهَهُ أَنْ يَنْصُرُوا أَهْلَهُ وَيَدْعُوا لَهُمْ بِالتَّمْكِينِ.

فَاتَّقُوا اللهَ –يَا مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ–، وَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَكُونَ هَذِهِ الحَادِثَةُ وَالآيَاتُ مِنْكُمْ مَحَلَّ تَأَمُّلٍ فَرْدِيٍّ فَحَسْبُ، بَلِ اجْعَلُوهَا تَتَعَدَّى ذلِكَ؛ لِتَكُونَ عَمَلًا جَمَاعِيًّا، وَتَأَمُّلًا مُجْتَمَعِيًّا، فَاعْقِدُوا الحَلَقَاتِ مَعَ ذَرِّيَّتِكُمْ وَأَهْلِكُمْ، فَ «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ»، وَإِنَّ مِنَ الحِرْمَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الإِنْسَانُ مَبَادِئَ دِينِهِ، ثُمَّ يَكُونَ أَبْخَلَ النَّاسِ عَنْ نَشْرِهَا فِي مُجْتَمَعِهِ وَعَائِلَتِهِ، أَوْ تَرْسِيخِهَا فِي أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ يُرِينَا مِنْ آيَاتِهِ، لِيَعْلَمَ تَسْلِيمَنَا فَيَمُنَّ عَلَيْنَا بِإِكْرَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، إِيمَانًا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَتَابِعِيهِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ المُتَأَمِّلَ فِي رِحْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ لَيَجِدُ مِنْ دُرُوسِهَا الرَّائِعَةِ مَا يُدْرِكُ أَنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ قَاصِرٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُخَالِفُ العَقْلَ ظَاهِرًا يَكُونُ غَيْرَ مَقْبُولٍ شَرْعًا، وَإلَّا وَقَعَ الإِنْسَانُ فِي إِنْكَارِ أُمُورٍ نَصَّ عَلَيْهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ، وَالسُّنَةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ، وَمِنْهَا حَدَثُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ الجَلِيلُ؛ الَّذِي اسْتَقْبَلَهُ المُؤْمِنُونَ بِيَقِينِهِمْ بِاللهِ وَثِقَتِهِمْ بِرَسُولِهِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، حَالُهُمْ ﴿أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وَهَذَا مَا تَجَلَّى فِي مَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– فَقَدْ طَبَّقَ بِدِقَّةٍ المَعْنَى الحَقِيقِيَّ لِلإِيمَانِ بِالغَيْبِ، فَإِنَّهُ «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَسَعَوْا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلى صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ! قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ؟! قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ».

فَفِي هَذَا الأَثَرِ الجَلِيلِ بَيَانُ أَهَمِّيَّةِ الإِيمَانِ بِالغَيْبِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– لَمْ يَشُكَّ قِيْدَ أَنْمَلَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ آثَارِ الإِيمَانِ الصَّحِيحِ؛ إِذْ إِنَّ المُؤْمِنَ الحَقَّ لا يَكْتَفِي بِالإِيمَانِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَكُونُ مَاثِلًا أَمَامَ عَيْنِهِ مِلْءَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ، بَلْ يُؤْمِنُ بِالعَالَمَيْنِ مَعًا: عَالَمِ الغَيْبِ، وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَقَدْ قَالَ الحَقُّ ﷻ حِينَ وَصَفَ المُتَّقِينَ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، فَنَلْحَظُ فِي الآيَةِ أَنَّ المَوْلَى ﷻ قَرَنَ الإِيمَانَ بِالغَيْبِ بِالصَّلاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الدِّينِ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ فَضْلِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ.

وَفِي الحَدِيثِ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإيمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ»، وَمَا الإِيمَانُ بِالبَعْثِ إِلَّا أَحَدُ آثَارِ الإِيمَانِ بِالغَيْبِ؛ فَإِنَّمَا البَعْثُ غَيْبٌ.

فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ– تُفْلِحُوا، وَآمِنُوا بِالغَيْبِ تَنْجُوا وَتَسْعَدُوا.

هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

ملف التحميل + الخُطَب المقترحة

بداية مع ملف الخطبة، والذي أخبرناكم أسنه سيكون بصيغة pdf. فيمكنكم تحميله من: هنا.

والآن؛ بإمكانكم الاطلاع على ما لدينا من خُطب أيضًا حول نفس الموضوع:

مع خالص الأمنيات بالتوفيق لكل الخطباء الأفاضِـل.

أضف تعليق

error: