الذي خلقني فهو يهدين

من المتفق عليه أنه “لا بد لكل صنعة من صانع”. ومن المتفق عليه أن “صانع الشيء أدرى به”.

يعني: يعرف ماذا وكيف يعمل، والطريقة الأفضل في استخدامه، وما هو الخلل الذي يمكن أن يصيبه عند إساءة استعماله.. إلخ.

ومن المتفق عليه أن “الإنسان لم يخلق نفسه” !

ولم يدع أحد أنه خلقه أو صنعه، سوى الله الأحد الصمد، وهو المتواتر ذكره في الخليقة، من لدن آدم -عليه السلام- إلى الآن، وإلى قيام الساعة، وذلك بتتابع الرسل وإنزال الكتب، وثبات المعجزات.

فليس من الحكمة ولا من المنطق ولا من الحق أن يخلق الله ﷻ عباده، ثم يتركهم سدى، لا يعلمهم ولا يرشدهم ولا يدلهم على ما فيه صلاحهم وصلاح أمرهم في العاجل والآجل، كما سنبين إن شاء الله.

وهذه مصنوعاتنا -وهي جمادات- تحتاج إلى علم ومعرفة لحسن الاستفادة منها واستثمارها، من قبل صانعها، فكيف بهذا الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه، وحمل أمانة أبت أن تحملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها؟!

فالإنسان أحوج من غيره لقانون واضح، وتشريع محكم، ليسير عليه ويستضيء بنوره في جميع مراحل حياته، الفردية والاجتماعية. بحيث يضمن له الخير والطمأنينة والسعادة، ويدفع عنه المضار والمفاسد، الظاهرة والباطنة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا من قبل حكيم خبير، عالم الغيب والشهادة، الخالق البارئ المصور.

يحتم علينا هذا عدة أمور، منها:

أولا: الإنسان لم يخلق ولم يصنع نفسه، وكفى بهذا دلالة على عجزه وفقره، وشدة احتياجه لغيره..، وقد نبه على هذا فقال ﷻ في القرآن الكريم: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيد}، أي: أيها الناس، إن فقركم متأصل فيكم، ولا تنفكون عنه طرفة عين؛ بحكم أنكم “مخلوقون” ضعفاء، لا تملكون من أمركم شيئا.

(المصنوع دائم الحاجة إلى الصانع، ولا عكس).

والله ﷻ هو “الخالق”، فغناه أصل أصيل، لا يعتريه أي نقص ولا شك، ولا تغير !

{الحميد}: المحمود على الدوام، من جميع الوجوه، سواء آمنتم أو كفرتم، فلا ينفعه ولا يضره ذلك في شيء.

ثانيا: الإنسان مخلوق ضعيف، حتى وإن زعم انه قوي بـ(عقله وعلمه)، ولا يحتاج إلى من يقنن له ويدله على مصالحه. وهذا زعم باطل؛ لأنه في الغالب تسيطر عليه أهواؤه وشهواته وتغويه الشياطين وتضله.

ثالثا: الإنسان ليس آلة أو ماكينة تضع لها مخططا للعمل، فتعمل حتى تنتهي مدة صلاحيتها!

الإنسان له شق مادي “الجسد” وشق معنوي (الروح)، وكلا الشقين له تعلق كبير بأمور غيبية، لا يدركها عقل الإنسان ولا علمه، وإن أدرك منها بعض الجزئيات البسيطة!

وهذه الأمور الثلاث، على الأقل، لا يستطيع الإنسان أن ينفك عنها أو يتجاوزها، فكيف يزعم السفهاء أنهم في غنى عن الدين وتشريعاته وقوانينه، وأنهم يمكنهم أن يشرعوا لأنفسهم قوانين تكفل لهم السعادة والعيش الكريم؛ بزعم أن علومهم كثرت وتطورت؟!

وهب -افرض- أن عقولكم تفتحت، وعلومكم تطورت، فهل يعني هذا أنكم تجاوزتم وتخلصتم من تلك العقبات الثلاث التي أشرنا إليها آنفا ؟!

{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِين}.

وانظر -أخي الكريم- كيف لخص الله ﷻ هذا في كلمة واحدة على لسان خليله إبراهيم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: {ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ}. أي: المتفرد بنعمة الخلق والإيجاد، هو المتفرد بنعمة الهداية والإمداد.

فلا أسمع ولا أطيع لأمر آمر ولا لنهي ناهٍ، ولا آخذ بقول ولا رأي ولا توجيه أحد، كائنا من كان، إلا الذي خلقني فله السمع والطاعة والخضوع والتذلل والحمد والثناء، لا تلتمس الهداية ولا يرجى الخير إلا منه، جل في علاه؛ إذ لا يصح ولا يصلح ولا ينبغي ذاك إلا له وحده، سبحانه.

يقول الإمام الطبري: {فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} للصواب من القول والعمل، ويسددني للرشاد.

ويقول القرطبي: {فهو يهدين} يرشدني للدين.

قلت -عبد الحفيظ-: فلا يمكن ولا يصح عقلا ولا منطقا ولا شرعا أن تصنع “غواصة مائية”، ثم تطلب من طرف آخر لا علاقة له بهذا الشأن أن يضع لها مخطط عملها “الدليل التقني”، لكيفية عملها واستعمالها!

فلنتأمل إذن، قول “إبراهيم”، عليه السلام، جيدا، ولا ننس قوله ﷻ: {وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِ‍يمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّلِحِينَ}.

بقلم: عبد الحفيظ جحيش

أضف تعليق

error: