مشاعر صيف ساخن جدًا

مشاعر صيف ساخن جدًا

اللقطة الأولى:

أخذت أضحك بصورة لم أفعلها من قبل، ذُهل واندهش وأعرب كل من حولي من إخوتي وزوجي عن استعجابهم!؛ فالصمت المطبق كان يخيم على عربتنا المسرعة في وسط طريق صحراوي موحش، لا بريق فيه سوى لسيارات مسرعة كالريح على الجانب الآخر؛ فالكل كان صامتًا متمتمًا في صمت: “اللهم سلم، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر”.

ولكني كنت أعيش لحظات من أبهج لحظات حياتي، تضيئها بسمات وهمسات ابنتي التي جلست على رجلي؛ لضيق العربة التي تكدست بالأقارب المسافرين معنا. في الحقيقة عربتنا العتيقة تحملت في صبر حمولة 8 أشخاص، وكأنها تريد أن تسبقنا في تحقيق الحديث.

أما سبب تلك الضحكة الرنَّانة فكان مقولة ابنتي (10 سنوات): “أنت محظوظة يا أمي بأن أكرمكِ الله بزوج مثل أبي؛ فهو فعلا رجل ديمقراطي، صدره واسع لأي نقاش، يحاور، يناقش ويقنع من حوله قبل أن يفرض رأيًا أو يصدر أمرًا”، ثم أردفت في خبث ولؤم: “ولكنه أيضًا محظوظ” هنا ضحكت؛ فأنا أستشف من لمحات العين ونبرات الثغر الصغير الصدق من المجاملة اللطيفة.

وهنا: المصيف في البيت.. أفكار تربوية ممتعة

اللقطة الثانية:

كنا نتريض سويًا —أنا وابنتي الوسطي— في المضمار المخصص للجري أو الهرولة أو مجرد المشي لكبار السن (مثلي).

أستغل هذه الفرص الماسيَّة (لكونها أثمن من الذهب وأغلى منه بمراحل) للكلام مع ابنتي؛ حيث تصرح لي بصدق وببراءة عما يجول بداخلها؛ مشاكلها، أحلامها، طموحاتها، بل ووجهات نظرها حول أمور عدة.

بادرت أنا بسؤالها: كيف تجدين هذا الصيف؟ أهو ممل وقاتم كالصيف الماضي؛ حيث مرضتُ ولازمتُ الفراش؛ فلازمتم البيت لتخففوا عنى، ثم مرض جدكم فكانت معظم أوقاتكم تقضونها بجواره على السرير؟

سلمى (7 سنوات): إنه صيف رائع يا أمي، الحمد لله، في النهار نذهب إلى المسجد الذي يوفر لنا العديد من الأنشطة الفنية بجانب حفظ القرآن وسماع القصص النبوي، ثم تأتين من العمل متعبة ومنهكة ولكنك بالرغم من ذلك تأخذيننا إلى حمام السباحة؛ حيث نقضي أمتع اللحظات ولا نغادره إلا عندما يعلو صياح المدرب: “انتهى الوقت المحدد، سوف أُخرجكم بنفسي إن لم تخرجن الآن”، ثم نقضي ساعة أو ساعتين في المكتبة وسط المجلات والكتب، وليس هذا كل الأمر، وإنما تصحبيننا إلى “السينما” إن وجد ما هو مناسب للسن التي نحن فيها، أو نجلس مع جدتنا في حديقة النادي نسامرها، وتحكي لنا عن أيامها حينما كانت في مثل سنِّنا”.

“أمي أتدرين، لقد تغيرتِ؟”

” أنا؟! كيف”

“أنت في هذا الصيف تبذلين كل الجهد لإسعادنا، أنت أجمل أم… أقصد في الصيف”.

صمت في سعادة عارمة، إنه النجاح بعينه، أن يستفيد الصغار بوقتهم في جو من المتعة والنشاط.

وقد توَد القراءة عن مصيف مطروح: ما تود معرفته قبل الحجز ودفع المال

اللقطة الثالثة:

جلسنا في العربة نعاني من حر الصيف، وكدنا نغرق تحت وطأة العرق، ولم يكن هناك بُدٌّ من شغل هذه الدقائق بشيء من الضحكات أو اللطائف؛ وذلك حتى ينتهي بعض من إصلاح عطل العربة “زوبة”، التي انحشرنا فيها دون أدنى فكرة أن العربة سوف تتعطل في مثل هذا الجو الحار، وتحت هذه الشمس الحارقة، وسط كل هذا الضجيج لعربات: صغيرة، كبيرة، حديثة، عتيقة؛ فمنها ما يحمل أطنانًا من زجاجات المياه الغازية، ومنها ما يحمل آنسة بجوارها كلب “لولو”. منها ما يمر بجوارنا مسرعًا، وكأنه على موعد مع طائرة مسافرة بعد ثوانٍ، ومنها ما يمر مرور السلحفاة.

فطلبت منهم أن يُعد كل منهم خطة سرية تهدف إلى إهداء ابتسامة لأبيهم بمجرد جلوسه على كرسي القيادة، والفائز هو من يصل إلى أكثر من الابتسامة، فيتفوق بالحصول على أعلى ضحكة، والحكم هو ذلك الرجل الطيب الذي يتصبب عرقًا مع فني الإصلاح، فأجابوني بأنهم —إيثار (10 سنوات)، سلمى (7 سنوات)، وحبيبة (4 سنوات)— سيعدون سويًا مفاجئة واحدة، أخذوا يتهامسون، ويضحكون، ثم علا صوت القهقهة، ثم تحول الجو في المقعد الخلفي، وكأنه خيمة لقائد الجيوش؛ حيث أخذت إيثار في ترتيب الأوامر: أنت تبدئين، ثم عند حركة يدي تتوقفين، ثم يأتي دوري، ثم بعد ثوانٍ يأتي دورك يا حبيبة.

ها قد انتهى والدكم من عملية إصلاح العربة، استعدوا يا بنات، هاهو يدفع النقود للفني، استعدوا، إنه على وشك الوصول، وما إن فتح باب العربة، وقبل أن يلمس مقعد القيادة سمعنا غناء بديعًا: “أنت أجمل أب في الدنيا، سنبقى دومًا طوال العمر نحبك، يا أبانا مهما فعلت بنحبك” كانت فعلا مفاجئة كان الغناء بديعًا، وتنظيم الأمر؛ من يبدأ، ثم من يتلوه تنظيمًا محكمًا، والأصوات كان أجمل ما فيها صدقها وبرائتها.

ضحك، وكان الرد التلقائي: “غناؤكم رائع، لم أكن أدري أنكم موهوبون في هذا أيضا، ولكن ما المناسبة؟ آه تريدون شيئًا معينا؟.

فكان الرد الأكثر تلقائية والأعمق براءة: “لا لا نريد شيئًا، نحبك لأجل الحب“.

كم هي فرصة رائعة أن نستغل الصيف والأوقات التي نقضيها مع صغارنا في التعرف على مشاعرهم وأحاسيسهم تجاهنا نحن؛ تجاه حياتهم، تجاه من يحيطون بهم من أقارب وأصدقاء، تجاه الأنشطة التي يقومون بها.

في الصيف تكثر فرصة تواجدنا مع أبنائنا بصورة أكثر كثافة؛ فلما لا نحول هذه الدقائق والسويعات إلى فرصة لإعادة اكتشاف أبنائنا؟ هل نحن فعلا قريبون منهم حتى نعي طموحاتهم وتطلعاتهم؟ هل نستطيع أن نرسم صورة دقيقة عن مشكلاتهم والعوائق التي تعتري طريق سعادتهم؟.

فلتكن أيام الصيف التي نعيشها هي لبنات بناء صرح “الصداقة مع الأبناء“.

بقلم: منى يونس

أضف تعليق

error: