خطبة: الهجرة النبوية.. مدرسة الإيمان والتخطيط والتضحية – مكتوبة

خطبة: الهجرة النبوية.. مدرسة الإيمان والتخطيط والتضحية - مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي حاط عباده بالرعاية، وجعل الهجرة النبوية مدرسة للتمكين وبداية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد المهاجرين، وأعظم الحكماء العاملين، ﷺ وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.

أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الهجرة إلى الله طريق السعادة والمغفرة، يقول الله ﷻ: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وتذكروا -وفقنا الله لمرضاته- أنه تمر بنا في هذه الأيام ذكرى حادثة الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ذلك الحدث الذي غير الله ﷻ به مسار الحياة في الإسلام، ووضعت به أسس الدعوة المحمدية الجامعة للناس جميعا، التي منشأها الرحمة وطريقها الكرامة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون: إن الناظر في رحلة الهجرة النبوية الشريفة، يجد أنها لم تكن مجرد حدث تاريخي، بل هي مدرسة تربوية تعلمنا دروسا في الإيمان والتخطيط، والأخوة والصبر؛ فكيف نستلهم منها العبر في حياتنا؟ وكيف نستفيد من مرورها علينا في كل عام؟

لعل أول رسالة في الإيمان ينبغي لك -أيها المسلم الرشيد- أن تتعلمها من حادثة الهجرة أن تحيا واثقا بالله، متخذا أسباب الفلاح، فإن النبي ﷺ مع علمه بما يكيده أهل قريش ما شك في ربه لحظة، مؤكدا عزمه بقوله ﷻ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾.

وإنك -أيها المقتفي أثر نبيك الكريم- ترى أنه ﷺ ما ترك هجرته للصدف، بل غلف ثقته بالله ﷻ بحسن التخطيط وجمال التدبير، فالحكمة وإعمال العقل في الأمور لا تتنافى مع الإيمان بالله، فاختار الصاحب وعين الراحلة واستخدم دليل الطريق ووظف أهل الخدمة، ولنا فيه أسوة في قضاء شؤون حياتنا، يقول المولى القدير: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

أيها المسلمون: تعلمنا الهجرة النبوية الشريفة التضحية بالمصالح الشخصية في سبيل الحفاظ على مصالح الأمة والوطن والدين، فبينما يخرج الصحابة رضوان الله ﷻ عليهم من مكة المكرمة تاركين وراءهم أموالهم وأهليهم تظهر هنالك صورة من الصدق في الاتباع، ويتجلى فداؤهم للدين العظيم، والله ﷻ يقول عنهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

ولا ريب؛ فإن الهجرة إلى الله ﷻ حية لا تموت، وهي ليست انتقالا من مكان إلى مكان فقط، بل هي هجرة القلب من الغفلة إلى الذكر، والجوارح من المعصية إلى الطاعة، وإن المهاجر الحقيقي هو من هجر الذنوب والشهوات في سبيل بلوغ الرضى من الله ﷻ رب الأرض والسماوات، فإن النبي ﷺ يقول: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».

فاتقوا الله -عباد الله-، واستلهموا من حادثة الهجرة عبرها التي تعينكم على أنفسكم، وتأخذ بكم إلى طاعة ربكم، وإحسان العمل مخلصا لخالقكم، ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

وهذه ⇐ خطبة مؤثرة عن الهجرة النبوية المشرفة: دروس وعبر من أعظم حدث في تاريخ الإسلام

الخطبة الثانية

الحمد لله الهادي إلى الرشاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، سيد الأشهاد، ﷺ وعلى آله وأصحابه إلى يوم المعاد.

أما بعد، فيا عباد الله: يقول الله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، لقد تجلت في حادثة الهجرة المباركة أخوة المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وفي تآخيهم بالأمس منطلق للمؤمنين اليوم في الترابط والتآزر، وإغاثة الملهوف من المسلمين، وربط جسور المودة والرحمة بين قلوبهم، ليس في القطر الواحد من أقطارهم فحسب، بل في مشارق الأرض ومغاربها، فالمؤمنون كالجسد الواحد كما يصفهم نبيهم ﷺ بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وفي حادثة الهجرة تحمل النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر المشقة في الغار، وتحمل المهاجرون صعوبة الفراق، لكن الله ﷻ مكن لهم دينهم بصبرهم، ويسر لهم الفرج بنصرتهم لنبيهم، فتحقق وعد الله ﷻ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

فاتقوا الله -عباد الله-، وتذكروا أن الهجرة النبوية كانت بداية النجاح لا نهايته، علمتنا أن الوحدة بين المسلمين تزهر بإذابة الفوارق وإزالة أسباب الشقاق، وأن الصبر مفتاح الفرج ودليل الأجر.

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top