خطبة: ثمرات التوكل على الله

تمت الكتابة بواسطة:

خطبة الجمعة , ثمرات التوكل على الله

يسير المؤمن الصَّادق متوكلا مُطمئنًّا. ومن هذا الباب سيكون مدخلنا لخطبة اليوم حول ثمرات التوكل على الله ﷻ. والتي نبعث من خلالها العديد من رسائل الطُّمَأْنِينَة والهدوء والسكينة، في كل مناحي حياة المسلمين.

عناصر الخطبة

  • التوكل على الله ﷻ هو بذل الجهد والاجتهاد والعمل، والاعتماد على الله ﷻ وحده في تدبير الأمور.
  • التوكل على الله شعبة من شعب الايمان.
  • التوكل على الله وحده من سنن الأنبياء والمؤمنين والصالحين.
  • لا تعارض بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب.
  • من ثمار التوكل على الله النصر وسعة الرزق والحفظ من الشيطان.

الخطبة الأولى

إنّ من أعظم العبادات القلبية والتي لا يستغني عنها المسلم أبداً عبادة عظيمة الأثر هي حصن المسلم الحصين، ورُكنه القويّ المتين، من اعتصم بها عُصِم، ومن ركن إليها رشد. إنَّها عبادة التَّوكل على الله، عبادة الصادقين وسبيل المخلصين، ومن أجلِّ صفات المؤمنين، قال ﷻ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.

فالتوكل على الله ﷻ هو بذل الجهد والاجتهاد والعمل، والاعتماد على الله ﷻ في تدبير الأمور، ومن علاماته: الرضا بما يكون، وترك السخط على ما لا يعجب العبد.

وليس أدلُّ على أهمية التوكل على الله من أن الله ﷻ أمر به نبيّه الكريم ﷺ، قال الله ﷻ: ﴿وتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وكان سنة سّيدنا محمد ﷺ قولاً وفعلاً، ليعلِّم الدنيا بأسرها حقيقة التوكل على الله، ومن ذلك: يوم أنْ هاجر ﷺ من مكةَ المكرمة إلى المدينة المنورة، وهو في غار ثور، والعدو يتربص به من كل مكان حتى وصلوا إلى باب الغار لا يفصل بينهم وبينه فاصل، عندها تطرق الخوف إلى قلب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حرصاً على رسول الله ﷺ، ولكن رسول الله في غاية السكينة والطُّمأنينة لاعتماده على ربِّه وتوكُّله عليه ﷻ في العمل وبذل ما أمره الله ﷻ به، ففي الصحيحين عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»، فصرفهم الله ﷻ وأعمى أبصارهم.

والتوكل ليس منهج الأنبياء فحسب، بل هو منهج كل المؤمنين بالله ﷻ، فقد أمر الله ﷻ المؤمنين بالتوكل عليه في مواضع كثيرة من القرآن؛ قال ﷻ: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وقال ﷻ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وقال ﷻ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾.

والحق أن التوكل على الله نتيجة مباركة لمعرفة الله ﷻ، فمن عرف الله بأنه الخالق والمؤثر في الكون وحده، وأنه لا خالق إلا الله، ولا مؤثر إلا الله، ولا معطي إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا رازق إلا الله، وأنه المالك المتصرف وهو على كل شيء قدير، قال ﷻ: ﴿ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير﴾، من عرف ذلك وأذعن له وصدق به لم يسعه إلا أن يتوكل على الله وحده، ولن يثق إلا به، ولن يلجأ إلا إليه ﷻ.

هذا ولتعلموا أيها الإخوة أنّ التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه أعقلها وأتوكّل، أو أطلقها وأتوكّل؟ -لناقته- فقال ﷺ: «اعقلها وتوكّل»، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا النَّاس فأنزل الله ﷻ ﴿وتزودوا فإنَّ خير الزَّاد التَّقوى﴾، ولذلك لا بدّ من الأخذ بالأسباب، فقد أمر الله ﷻ أيّوب عليه السلام أن يضرب الأرض بِرجله بعد أن دعا الله ﷻ في مرضه، وهل ضربة الصَّحيح للأرض مُنبعة للماء؟ لا، ولكن الله يريد أن يُعلِّمنا أنَّه لا بد من اتخاذ الأسباب، فالأمر أمره، والكون كونه، ولكن لا بد من فعل الأسباب.

ولما أراد الله أن يُطعم السيدة مريم عليها السلام وهي في حالة وهْنٍ وضعف، أمرها أن تهُّز جذع النَّخلة؛ قال الله ﷻ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]، لأنه لا بد من الأخذ بالأسباب، قيل:

ألم تر أنَّ الله قال لمريم
هُزِّي إليك الجذع يُساقط الرطب

ولو شاء أن تَجْنه من غير هزِّها
جنته ولكن لكل شيء سبب

ومع أمر الله ﷻ لنا بالأخذ بالأسباب ليميز المتوكل من المتواكل، إلا أن العبد المتوكل لا يعتمد عليها، وإنَّما يجعل اعتماده على الله ﷻ، فلا بد من بذل السبب ولو كان يسيراً، وبعد ذلك نعلم أنّ الله هو مُسبِّب الأسباب، ولو شاء أن يحول بين السبب وأثره لفعل ﷻ، فالله ﷻ هو خالق الأفعال ولذا لمَّا أُلقي إبراهيم عليه السلام في النًار لم يحترق، لأن الله ﷻ قد عطَّل الأسباب، وإسماعيل عليه السلام لمَّا أمرَّ أبوه السكين على عنقه وهي سبب في إزهاق الروح لم تقطع، لأن الله لم يأذن في ذلك: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فالله ﷻ ربط الأسباب بالمسببات لحكمةٍ أرادها، فمن عطَّل الأسباب عطَّل الحكمة، ومن اعتمد عليها فليس من المتوكلين على الله حق التوكل.

ثمرات التوكل على الله

وإنَّ للتوكل على الله ثمرات عظيمة جليلة. منها:

النَّصر فهو من أهم أسبابه، قال ﷻ: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، فأمر الله بالتوكل بُعيد ذكره للنصر ليدلل على أنَّه من أسبابه، لكنه قبل ذلك أمرنا بالإعداد والاستعداد، قال الله ﷻ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، والتوكل سببٌ للحفظ من الشيطان الرجيم، قال ﷻ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.

وهو سببٌ للرًزق: ففي سنن الترمذي وابن ماجة: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»، تغدو: تذهب أوَّل النَّهار، وتروحُ: ترجع آخر النهار، فالطير رغم أنّ الله ﷻ تكفل برزقها، إلا أنها تغدو وتروح، أي تعمل وتبذل الجهد للحصول على رزقها.

والتوكل دليل على صِدق الإيمان، قال ﷻ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.

ولذا قال سعيد بن جبير رحمه الله: “التوكل على الله جِماع الإيمان”، هو سبب للكفاية والحماية والرعاية، قال ﷻ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾، وقال ﷻ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه﴾، وقال ﷻ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فمن كان الله معه فمن عليه ومن كان عليه فمن معه.

وهو سبب لنيل محبَّة الله، قال ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وأعظم ثمار التوكل على الله الجنَّة: قال ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يتوكلون﴾، ما أجمل التوكل على الله، ففيه رغد العيش، وراحة البال، وصفاء الروح، ونقاء السريرة.

كذلك؛ هذه أيضًا: خطبة عن التوكل على الله «سبحانه وتعالى» — مكتوبة ومعنصرة

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

التَّوكل على الله ثمرة من ثمرات الإيمان مقرون بالأخذ بالأسباب، بعيد عن التواكل والتكاسل والاعتماد على زيد وعلى عمرو.

قال الإمام المفسر الكبير فخر الدين الرازي واصفاً ثمرة التوكل: والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة، والشدة والرزية، وإذا عوّل العبد على الله وحده ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرّت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقرّ قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله ﷻ وإحسانه.

إنّ الإسلام يحثّ الإنسان على العمل وبذل الجهد في تحصيل المطلوب منه، وينهى عن الرّكون إلى الكسل والخمول، وترك السّعي والاجتهاد في تنفيذ ما أمره الله به، فالتوكل لا يعني العجز أو الاستسلام أو القعود عن العمل، لأن ذلك يضعف الأمة ويجعلها آخر الأمم.

وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.

وختامًا؛ نوصيك أيضًا بالاطلاع على: خطبة الجمعة مكتوبة وكاملة عن أهمية التوكل على الله وأثره على المتوكلين


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: