خطبة: الحث على العمل ومكانته في الإسلام

خطبة: الحث على العمل ومكانته في الإسلام

هل رأيتهم قد أدمنوا الهواتف المحمولة، واعتادوا المقاهي، واستسلموا للبطالة، ثم يرمون باللَّوم على الظروف والحال. نعم، هذه الخطبة —المكتوبة— من أجل هؤلاء. هذه خطبة جمعة بعنوان: الحث على العمل ومكانته في الإسلام.

عرفتم –قطعًا– من العنوان موضوع الخطبة، وخمَّنتم محتواها. فما رأيكم بالاطلاع على هذا المحتوى!

عناصر الخطبة

  • الإنسان خليفة الله ﷻ في الأرض والواجب عليه السعي لعمارة الأرض في سبيل تحقيق مفهوم الاستخلاف.
  • الإسلام يحث على الاجتهاد والعمل والسعي في طلب الرزق الحلال وترك الكسل.
  • الإسلام دين الرقي الحضاري والتقدم والاعتماد على الذات في شتى مجالات الحياة.

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لقد خلق الله ﷻ الإنسان لمهمة عظيمة في هذا الكون ورفع قدره وكرمه وشرفه، فقال ﷻ، ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾، نعم أيها الإنسان، أنت خليفة الله ﷻ في هذه الأرض، ومهمتك هي أن تقوم بأداء حق الاستخلاف على أكمل وجه، حتى تحقق الغاية من وجودك وترتفع إلى قمة المكرمات التي أرادها لك مولاك ﷻ، قال ﷻ: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾.

أيها المؤمنون، إن تحقيق معنى العبادة في قوله ﷻ: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ لا تقتصر على أداء الشعائر والعبادات، وإنما هو كذلك بتحقيق غاية الاستخلاف، فمهمة الخليفة هو إدارة وعمارة هذه الأرض، يُقَلِّبُ ترابها فتضحك له بعطائها، ويشق بحارها فتخرج له كنوزها، ويطير في سماءها ويرتادُ فضاءها فيطوي المسافات ويقطع الفيافي، ونشر الخير والسلام والأمان، والدعوة إلى دين الله ﷻ، لنيل رضاه ﷻ في الدنيا والفوز في الآخرة، فالإسلام دين العمل والنشاط، والجد والاجتهاد، قال ﷻ: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾.

وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والبخل والكسل وغلبة الدين وقهر الرجال».

عباد الله: يتوجب على المجتمع الإسلامي أن يكون مجتمعاً منتجاً، فلا يقبل أن يكون عالة على المجتمعات في العالم، ولا يليق بالأمة الإسلامية أن تكون أمة عاجزة متأخرة عن نظيراتها، كما لا ينبغي للمسلم أن يعيش في جهل وظلام، وكسل، يتكفف أيدي الناس، ويرضى بالذل والهوان، فالمسلم عزيز كريم، كرمه الله ﷻ، وزاده تشريفاً بهذا الدين العظيم، وجعل قدوته في الحث على العمل والمبادرة إليه الأنبياء والمرسلين والصالحين.

فالله ﷻ يذكر فضله ونعمته على أشرف الناس وأكملهم وهم الأنبياء والمرسلون، وأنهم كانوا أصحاب جد واجتهاد وأصحاب حرف، مع ما تحمله مهمتهم في الدعوة إلى دين الله من جهاد ومصابرة، فهذا نبي الله داود الذي كان يعمل حداداً ويأكل بكد يده وعرق جبينه، فأعانه الله ﷻ على مهنته وألَان له الحديد وامتدحه بصناعته في قرآن يتلى على مدار الأزمان إلى قيام الساعة، قال ﷻ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

وهذا هو دأب جميع الأنبياء والمرسلين، فآدم عليه السلام كان مزارعاً، ونوحٌ عليه السلام كان نجاراً، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وموسى عليه السلام كان راعياً، ونبينا ﷺ كان راعياً وتاجراً، فلنا فيهم جميعاً عليهم السلام أسوة وقدوة في الاجتهاد وترك الكسل، والبحث عن العمل، فقال النبي ﷺ عن نفسه: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» صحيح البخاري.

كما عمل ﷺ في التجارة بأموال السيدة خديجة رضي الله عنها، فإذا كان أشرف الخلق، وأكملهم، وأتقاهم وأقربهم إلى الله ﷻ، يرعى الغنم وعمل في التجارة، فالأصل أن نقتدي بهدي نبينا ﷺ، وأن نسير على دربه في طلب الرزق من الله ﷻ، والسعي لتحصيله بالطرق المشروعة.

وعلينا أن نعلم أن اعتقاد بعض الناس بأن السعي والكدح في طلب الرزق في شعب ومناحي الحياة هو من تلبيس إبليس عليهم، مناقض للرضى بقضاء الله ﷻ، وتقديره الرزق لعباده، بل إن من كمال الإيمان بالله ﷻ هو الكد والعمل في طلب الرزق الحلال، والذي قدر أرزاق العباد في قوله: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السموات والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون﴾ هو ذاته ﷻ القائل: ﴿وجعلنا النهار معاشا﴾ الذي أمر عباده بالسعي في طلب الرزق فقال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

فالسعي في الأرض لا يعارض الإيمان بأن الله ﷻ هو الرازق الحقيقي وأن الرزق مقدر من الله ﷻ، ولكن الله ﷻ يقول: ﴿وآتيناه من كل شيء سبباً، فأتبع سبباً﴾، فمن أخذ بأسباب الرزق ناله الخير من الله ﷻ، والثواب في الدنيا والآخرة.

ولقد جاء الإسلام ليحقق مصالح العباد في الحال والمعاد، فيسعى المسلم إلى كل ما فيه خير في الدنيا والآخرة، وهو مقصد الله ﷻ في الموازنة بين العبادة والعمل، فقال ﷻ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فجعل الله ﷻ الفلاح متعلق بعبادته ﷻ والقيام بحقوق الله ﷻ، ثم القيام بحقوق نفسه ومجتمعه للوصول إلى الاكتفاء الذاتي والرفاه الاقتصادي.

فمن فقه الموازنة والاعتدال وفقه التيسير على العباد أن الله ﷻ لم يشرع لنا الكهانة والانصراف عن الحياة والدنيا بالكلية واعتبرها من معوقات النهوض بالأمة وتحقيق غاية الإسلام، فيسر الله ﷻ على عباده، وجعل لهم واجبات مقدرة بقدرها ومواقيتها، وجعل السنن والنوافل على قدر استطاعة العبد بعد قيامه بواجباته الأخرى في العمل، فقال ﷻ: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.

بل وصف النبي ﷺ الخروج للعمل بأنه عبادة، والساعي إلى طلب رزقه وقوت عياله كالخارج في سبيل الله ﷻ، وقد رأى بعض الصحابة شابًّا قويًّا يُسرِع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فردَّ عليهم النبي ﷺ بقوله: «لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان«.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة”، ويقول أيضاً: رضي الله عنه: “أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول هَلْ لَهُ حِرْفَةٌ فإن قالوا لا سقط من عيني”. فعلى المسلم أن يعمل ويجتهد حتى تتحقق قيمته في الحياة.

يقول الشاعر:

بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ المعَالِي
ومَنْ طلب العُلا سَهرَ اللَّيالِي

ومن طلب العُلا من غير كَدٍّ
أَضَاع العُمْرَ في طلب الْمُحَالِ

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الله: كما أمر رسول الله ﷺ بالعمل فانه نهى عن الخمول والكسل، ولم يرضَ لصحابته أن يعيشوا عالة يتكففون الناس، كما لم يرض لهم تسول حاجاتهم فقال ﷺ «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه».

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أن رجلًا من الأنصارِ أتى النبيَّ ﷺ يسألُه فقال أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟ قال بلى حِلْسٌ نلبسُ بعضَه ونَبسطُ بعضَه وقعبٌ نشربُ فيه من الماءِ قال ائتني بهما قال فأتاه بهما فأخذهما رسولُ اللهِ ﷺ بيده وقال من يشتري هذينِ؟ قال رجلٌ أنا آخذهما بدرهمٍ قال من يزيد على درهمٍ؟ مرتينِ أو ثلاثًا قال: رجلٌ أنا آخذُهما بدرهمينِ فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمينِ وأعطاهما الأنصاريَّ وقال اشترِ بأحدِهما طعامًا فانبِذْهُ إلى أهلِكَ واشترِ بالآخر قدُّومًا فأتني به فأتاه به فشدَّ فيه رسولُ الله ﷺ عودًا بيدِه ثم قال له اذهبْ فاحتطبْ وبعْ ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا فذهب الرجلُ يحتطبُ ويبيعُ فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهمَ فاشتَرَى ببعضِها ثوبًا وببعضِها طعامًا فقال رسول الله ﷺ هذا خيرٌ لكَ من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ إنَّ المسألةَ لا تصلَحُ إلا لثلاثةٍ لذي فقرٍ مُدْقِعٍ أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ».

وفي هذه الأحاديث وغيرها، حافز للمسلم، أن يشمر عن ذراعيه، وأن يعمل يديه فيما فيه نفع أمته وبناء مجتمعه، وأن ينبذ ما يسمى بثقافة العيب التي تعرقل عجلة المجتمع، وتعيق تحركه نحو النهضة والبناء، وليلبس كل واحد منا لباس العز والشرف، الذي مدح الله ﷻ به أنبياءه، فلو كان في العمل المباح عيب أو خارم من خوارم المروءة لما فعله خير الرسل وباقي الأنبياء عليهم السلام.

وخاصة إذا التزم المسلم بواجبات العمل وحقوقه وآدابه، التي يمكن أن نلخصها بأن يكون العامل أميناً في عمله، ملتزماً بأنظمته وقوانينه المحددة، متقيداً بميثاق شرفه، لا يسرق ولا يغل، ولا يخون العهد والأمانة، وأن يكون سهلاً ليناً في تعامله مع الناس، يقول النبي ﷺ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه».

وصَل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله..

⇐ خُطَب رائِعة أيضًا.. بانتظارك أدناه:

أضف تعليق

error: