خطبة عن تعظيم المساجد ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾

خطبة عن تعظيم المساجد ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي تنطق الآفاق بعظمته، وتخفق الأعماق بمحبته، سبحانه جعل بيوته مهوى للقلوب، ومجلى للكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

الخطبة الأولى

واعلموا –رحمكم الله– أن هذه الحياة بصخبها وجلبها قد تفقد الإنسان شيئا من صفاء روحه، وسكون قلبه، فهو في سعي دؤوب، ومشاغل شتى، حتى إذا ما دخل برجله اليمنى المسجد –وبلل الوضوء ما يزال في جوارحه– أحس بسكينة عميقة، وسلام كبير، فتصفو الروح، ويسكن القلب، وما ذلك إلا نفحة من نفحات بيوت الله تعالى، ولمعة من لمعات نوره العظيم، كيف لا؟ وقد جعل الله بيوته الطاهرة محلا لتجلي نوره المبين، فقال ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾.

ويا ترى من يقتبس من هذا النور العظيم؟ ﴿رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾، وما جزاء هؤلاء الرجال؟ ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

أيها المؤمنون: ها هو النبي ﷺ في رحلة الهجرة المباركة يطلع على المدينة كما يطلع البدر، فتستبشر البطاح، وتسعد العراص، وكان من أول بنائه للمجتمع المسلم بناء المسجد؛ ليكون مركز إشعاع ومنار هداية، ولتستوي فيه القلوب كما تستوي فيه الصفوف، فكان من ذلك ما كان.

ودعونا الآن نعود بالزمن، وندخل مسجد رسول الله؛ لنرى لمحة من حال المؤمنين بين سواريه. فعن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم، فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القرآن فجلس إليهم، فقال: «بهذا أرسلني ربي»، ثم قام إلى الثانية فوجدهم يتكلمون في الحلال والحرام، فجلس إليهم ولم يقل شيئا، ثم قام إلى الثالثة فوجدهم يذكرون توحيد الله عز وجل ونفي الأشباه والأمثال عنه، فجلس إليهم كثيرا، ثم قال: «بهذا أمرني ربي».

إن هذا التذاكر لفنون العلم في مسجد رسول الله ﷺ ليعكس لنا صورة مشرقة للدور الفاعل الذي تقوم به المساجد في التعليم والتربية.

أيها المؤمنون: مشهد عظيم وأنت ترى حلقات القرآن الكريم في المساجد، يلتف حولها الناشئة، فتزكو نفوسهم، وتستيقظ ضمائرهم، وتضيء عقولهم، وتتهذب طباعهم، وتصلي الفجر فتراهم بعد ذلك ملتفين في حلقة مباركة يقرؤون القرآن الكريم، فتتذكر قول رسول الله «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».

ولا تكاد تسمع فتى يتلو القرآن الكريم تلاوة صحيحة إلا وجدته قد نهل من ينابيع تلك الحلقات المسجدية ما روى وجدانه، وقوم لسانه، فاعمروا بيوت الله بذكر الله، وجملوها بمجالس العلم، حتى تنزل عليكم السكينة، وتغشاكم الرحمة، وتحفكم الملائكة، ويذكركم الله فيمن عنده.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه أقول قولي يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

⬛️ وهنا خطبة: أهمية المسجد ودوره في نهضة الأمة – مكتوبة

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيا عباد الله: يقف الناس تحت ظل المسجد في صف واحد حيث تتلاشى الفوارق، وتأتلف القلوب، ليكونوا كالأسرة الواحدة، تشملها الرحمة، وتغمرها المحبة، فيفتقد الغائب، ويعاد المريض، ويؤازر المحتاج، ويكون المجتمع بذلك مجتمعا متماسكا متراحما يصدق فيه قوله «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

أيها المؤمنون: إنه لمشهد يثلج الصدر، وتقر به العين، أن ترى الأب يصطحب أولاده إلى المسجد عند كل صلاة، فيصلي ركعتي تحية المسجد، فيصلون كما يصلي، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، فيقرؤون مثلما يقرأ، فإذا ما أقيمت الصلاة وقفوا جميعا بين يدي الله، يؤدون تلك الفريضة العظيمة، ويذكرون الله بعد ذلك، بعدها يصلون السنة، ويعودون إلى البيت والسكينة تظلهم، والبركة تصحبهم، فنعما القدوة الحسنة، ونعما التربية الصالحة، وللأمهات –رعاهن الله– اليد المباركة في ذلك، فكم يصبرن على إيقاظ أولادهن للصلاة، وكم يستحثثنهم على الجماعة، وكل ذلك غرس سيجنون ثماره أولادا خيرين وبيتا مباركا ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.

هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.

أضف تعليق

error: