أنشودة الأمل «بقلم د. مصطفى محمود»

أنشودة الأمل «بقلم د. مصطفى محمود»

الدنيا لم تعد هي الدنيا ولا الناس هم الناس. ولو كنت من مواليد العشرينيات من القرن العشرين مثلي لشعرت بأنك أجنبي غريب في بيتك وبلدك وناسك، أو أنك في قاعة سينما تشاهد أفلاما شريرة، الابن يقتل أباه والأم تقتل ابنها والزوج يحرق زوجته والشركات تبيع منتجاتها مغشوشة علانية في الأسواق، والكلام في كل وسائل الإعلام عن التلوث، وتقرأ عن حكومات تؤوي الإرهاب وتنفق عليه وتموله وتستعمله كأدوات شرعية بديلة عن الاستعمار القديم لإخضاع العالم الثالث واستغلاله، وتري الشر له مؤسسات محترمة تزاول جرائمها في علانية وفي حراسة القانون، وتشاهد الزراعة بالهندسة الوراثية في حدائق معلقة وصوبات، وشتاء لندن شديد الحرارة، وغابات أفريقيا المطيرة شديدة الجفاف، والأرض في تصحر مستمر، ويتكلم الناس عن خرق في طبقة الأوزون وعن الأشعة فوق البنفسجية التي تتسلل إلى الأرض وتسبب سرطان الجلد.

وعن السيجارة التي تسبب سرطان الرئة والحلق والثدي والبروستاتا والمعدة والبنكرياس، وعن رعب جديد اسمه البورصة، وضربات الفقر والإفلاس تصيب الدول الآسيوية فجأة بسبب هبوط البورصة وتدهور العملات، وحروب مستترة لإفقار العالم النامي دون حروب وبمجرد شراء العملات وبيعها، وتسمع عن المافيا التي أصبح اسمها إسرائيل وينتشر مواطنوها في العالم كأذرع الأخطبوط وتتغلغل في الحكومات وفي مناصب صنع القرار وتتسلل كالوباء المدمر في كل حكومة ويعلو صوتها ويتفاقم شرها، وعن العالم الذي يقترب من كارثة أو زلزال وشيك أو فساد شامل ينهار فيه كل شيء، إن الدنيا لم تعد هي الدنيا، والناس ما عادوا هم الناس الذين تعرفهم، وإنما أنت غريب فيهم وأجنبي لا تفهم لغتهم، ومواطن مذعور تبحث لنفسك عن جب تختفي فيه وتطلب من الله الستر بقية أيامك.

وهذه دنيانا في بداية الألفية الثالثة من عمرها المديد.

الانحلال والفساد، والجريمة والأمراض الخبيثة والأوبئة، والرعب والإرهاب، والعلم الشرير. والسياسة ذات الوجهين وأمريكا قطب وحيد يحكم العالم. وإسرائيل طفيل تحت جلدها يتغذى على دمها، دراكولا، ونباش قبور، ينشر الفتن والحروب والأحقاد، وأمريكا تظن أنها تستعمله على أملاكها، بينما هو الذي يستعملها على أطماعه.

والعالم ينحدر دون أن يدري إلى هاوية من القسوة والحروب والدمار.

والكراهية والبغضاء تسود برغم الوفرة والقوة والثراء.

وأمريكا القوية ليست في حاجة إلى الغزو ولا إلى الحروب فعندها ما يكفيها وما يزيد على كفايتها، فلماذا تهدد هذا وذاك. لماذا ترسل أساطيلها وبوارجها وطائراتها تروع العالم وتخيف الضعفاء؟

لماذا تريد أن تتحول إلى عملاق كريه؟

وكيف يسيطر الحقد الإسرائيلي على الطاغوت الأمريكي، وكيف يثير البرغوث غضب الفيل؟

ولكننا لسنا وحدنا في هذا الكون يا سادة نعبث كما نريد، وإنما للكون صاحب يحفظه من الدمار والفناء، ومنذ مليارات السنين من قبل أمريكا ومن قبل ميلاد أرضنا وشمسها، والكون موجود، وما حياتنا على هذه الأرض إلا لحظة عابرة بالنسبة لهذه الأحقاب البائدة، وما قارة أمريكا إلا مجرد فقاعة ظهرت على وجه الماء ما تلبث أن تنفجر وتزول وما أكثر ما ظهرت قارات واختفت أراضينا.

والزمن يبتلع كل شيء والأزل يبتلع الزمن في جوفه، والله في أبده اللانهائي يحيط بالوجود كله، وما العلمانيون إلا رغوة وزبد عكر سطح الغدير الصافي، ولا يلبث أن يذهب جفاء، ويصفو الماء الرقراق من جديد، ويتجلى وجه ربنا في صفائه.

وأقول للضعفاء الذين يعانون ويتعذبون ولا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا، أقول لهم: اتقوا الله واصبروا وسوف يغير الناموس الإلهي الدوار كل شيء.

ولمن يستطيع أن يزرع شجرة أقول له: ازرعها ولمن يستطيع أن يبذل النصح ويقول كلمة حق، أقول له: قلها ولا تخف.

ولمن يستطيع أن يبني أملا ويقيم جدارا، أقول له: يدي على يدك.

واشغلوا أنفسكم بما يفيد وينفع ودعوا الكون لخالقه والأقوياء الجبابرة للذي هو أقوى منهم، للجبار القهار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وإذا أراد الله لنا أن نقاتل فسوف يوفر لنا أدوات هذا القتال ويعيننا عليه.

وثقوا بربكم وآمنوا بعدالته، فلا موجود بحق سواه، ولا حاكم سواه ولا صانع للتاريخ سواه ولا مدبر للأقدار سواه وان ادعى المدعون أنهم صنعوا ودبروا فما كانوا طيلة الوقت إلا أدواته، وما كانوا حينما ظلموا إلا غضبه وماكاوا حينما حلموا إلا حلمه وما كانوا حينما عفوا إلا وسائط عفوه.

وربنا الكريم الودود المنان هو التسبيحة والأنشودة والأمل.

منه الأمر وإليه الأمر.

ولا حول ولا قوة إلا به.

فاجتهدوا وابذلوا وسعكم وأسلموا له وارتضوا مشيئته ومن فاتته دنياه سوف تسعه آخرته، والآخرة أكرم.

وربكم لا تضيع عنده المروآت ولا تبخس في موازينه الحسنات وثقوا بأنه لا يدوم كرب وفي الدنيا رب.

سبحانه لا إله إلا هو تباركت أسماؤه وتقدست آلاؤه.

الرحلة الأبدية!

يظن أكثر المفسرين أنه بدخول المؤمنين الفائزين الجنة ينتهي الكفاح ولا يعود للمؤمنين عمل سوي الاستمتاع بأطيب الطعام وبالحور العين، ونقرأ في كتب التراث كلام أهل السلف الكرام بأن أهل الجنة لا شاغل لهم سوى فض الأبكار وأكل الثمار على شواطئ الأنهار، ولكن تأمل القرآن وقراءة آياته بتدبر يقول كلاما آخر.

يقول القرآن الكريم عن المؤمنين: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) [الحديد: 12]. ثم يتكرر المعنى نفسه في سورة التحريم الآية (28) مع إضافة جديدة لافتة للنظر: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [التحريم: 8]

وهي لفتة ذات معنى عميق تدل على أن الحكاية لم تنته بعد، وإن أهل الجنة يشعرون بأنهم لم يبلغوا الكمال بعد ولم يكتمل نورهم، وهم يدعون ربهم: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا).

يغفر لهم ماذا، ألم تنته المحاكمة والحساب وصدر الحكم النهائي ونالوا الرضا والبركة والجنة.

لا لم يبلغوا الكمال بعد ولم يكتمل نورهم.

والمعنى واضح، إنه ما زال هناك سعي وترق في المنازل وتكامل في النور الذاتي، وما زال هناك نقص، والنفوس تسأل ربها المغفرة، وتدرك هذا النقص الذاتي في نورها وأنه لا خلاص منه إلا بمغفرة.

يقول ربنا للإنسان في القرآن (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) ~ [الانشقاق: 6]

إن الكدح هو رحلة الإنسان وترقيه الأزلي للتكامل ليصل إلى اللقيا المباشرة مع ربه هذا الكدح أبدي، وهذه الرحلة أبدية، لأن الله في المطلق والإنسان في المحدود المتعين المقيد، والفرق بين المخلوق والخالق هو الفرق ما بين الزمن وما بين الأبد كله، وطوال هذه الرحلة الأبدية سيظل الإنسان يبرأ من نقائصه ويتكامل ويترقى إلى مالا نهاية.

وليس صحيحا ما يقول السلف إن حياة أهل الجنة هي فض الأبكار وأكل الثمار على شواطئ الأنهار، تلك أحلامهم الحسية، والجنة أرفع من ذلك بكثير.

الجنة معارج من الترقي والصعود إلى الله والكدح إلى الله.

وهي أمور أعلى وأشرف مما جرى لأهل النار الذين انتهوا إلى أسفل سافلين، وأصبح عليهم أن يقطعوا طريق المشقات والأهوال أضعافا مضاعفة، ولم تعد الأبدية تسعفهم للخروج مما هم فيه: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ~ [سورة البقرة: 167].

فعجزهم وقصورهم ملازم لهم.

هناك إذن أسرار وغيوب ومراحل وأحقاب لا يعلم غوامضها إلا الله، وليست الجنة هذا المفهوم السلبي لإنسان كسلان يقطف الثمار ويفض الأبكار وهو مستلق على ضفاف الأنهار.

والجنة فيها اللذائذ الحسية ولا شك ولكن فيها أيضا ترقي لآفاق معرفية لا نهائية وفيها تكامل وتطور واستنارة وقربى.

والقربى إلى الله لا مكان فيها ولا زمان ولا حيث ولا أين وإنما هي اقتراب لا نهائي من مطلق لا نهائي ومن كمال لا نهائي في آباد بلا حدود.

وهنا العظمة الحقيقية للجنة ولسعادتها ولذتها الرفيعة ونعيمها.

ولم يتوسع ربنا في كشف هذه الغوامض لعلمه بحب الكثرة من البشر للكسل وللذة السلبية التي لا تكلف صاحبها شيئا سوى أن يملأ فمه ويملأ حضنه. فأخفي الله هذه الأسرار لحينها، ولكنه أشار، في هذه اللفتات القليلة، وفي لمح بارقة إلى تلك الأسرار.

ولا شك في أن الكسالى والسلبيين لا يستريحون لهذا المعنى.

وسوف يقولون في خشية، أحنا رايحين نشتغل تاني ، هي الجنة فيها شغل كمان.

والمعنى مختلف، فليس في الجنة شغل، وإنما انشغال وحب وهيام وتطلع واستشراق وشوق ونزوع وترق.

وهو بعد آخر لا نفهمه بكماله في دنيانا، ولا نعرف حلاوته إلا حينما نذوقها ولا ادعى أني أعرف الجنة أو أني زرتها في خيال أو منام، وإنما أنا آخذ من كلام ربي وأحاول أن أفهم.

وأسمع المؤمنين في الجنة يسألون الله المغفرة، وقد انتهى الحساب وصدرت الأحكام وانتهى العتاب وتصافت الأرواح واستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقد سمع الكل نداء الملائكة، يا أهل الجنة نعيم ولا موت، ويا أهل النار عذاب ولا موت، جفت الأقلام وطويت الصحف.

فما طلب أهل الجنة للمغفرة هنا، إلا أن يكون إدراكا للنقص وشوقا إلى كمال لا سبيل إليه إلا بعون الله ومغفرته.

ثم هم أدركوا بالفعل أن نورهم ناقص لم يكتمل بعد وقالوا لربهم ربنا أتمم لنا نورنا، (والطلب صريح).

إن الكلمات قليلة ولكنها كاشفة بشكل قطعي على أنهم مقبلون على رحلة وأن في النفوس شوقا وتطلعات ونقصا تتمني تلك النفوس المشبوبة حبا أن تتخلص منه، وأثقالا تتمني أن تتخفف منها وأنها تتمني أن تنطلق سابحة في الملكوت لتعرف أكثر وتنور أكثر وتنعم أكثر.

نعم، إنه الكدح صعدا وارتفاعا وترقيا وتطورا.

وهو الكدح الجميل هذه المرة.

إنه الكدح بلا مرض وبلا جوع وبلا تعب وبلا موت.

إنه الكدح إلى حضرة الله رب العالمين صاحب العرش العظيم ومالك الملك العظيم.

وما أحلى هذا الكدح.

إنه النعيم الذي لا يوصف.

والذين يسيل لعابهم على الكواعب والحور العين كأمثال اللؤلؤ المكنون وكؤوس الخمر والسلسبيل سيجدون هذا ولا شك، ولكن ستتفتح شهيتهم إلى ما هو أعظم، وألوان الفواكه والثمار والمشروبات لن تكون نهاية تطلعهم، والرضا ليس له شاطئ، والطموح ليس له حدود.

ألم يقل ربنا عن أحبابه: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المجادلة: 22]

وقال لنبيه: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) فأي رضا للمحب دون الرضوان الأكبر، وأي رضوان أكبر من مطالعة الوجه الكريم، وجه الحبيب الذي دونه اللانهاية والتي ستكون غاية النعيم والذوبان الكلي والاستغراق العذب والسعادة القصوى التي لا توصف.

وهذا هو المفتاح الحقيقي لمعني الجنة وكيف تنال كل نفس من هذه الجنة بقدر همتها وطموحها وترقيها واستحقاقها الأزلي ونورها الذاتي، المسألة كما ترون أكبر بكثير من فض الأبكار وأكل الثمار والاستلقاء السلبي على شواطئ الأنهار.

والذين أفاض الله عليهم من نعم الدنيا من أهل المشاعر والنفوس العالية يعرفون العزف عن هذه الحسيات والشوق الحارق إلى ما وراءها.

إنهم قد عرفوا شميم هذا النعيم الآخر المحجوب وتطلعوا إليه وهم بعد في بشرية الدنيا وقيودها، وهم يتعجلون الخلاص من هذه الدنيا شوقا إلى المحجوب المحبوب هناك.

ولهذا نفهم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوي بطنه على بضع تمرات ويكتفي بها طعاما ولا يسأل عن المزيد لأنه مشغول دائما بمقتضيات همته العالية وأشواقه الرفيعة التي تأخذه دائما بعيدا عن هذه الدنيا إلى فيوضا ربه.

إن القرآن كتاب عجيب.

وعلى الرغم من اهتمام القرآن بتفاصيل المسائل الدنيوية وواجبات المؤمن فيها وعمله الدائب من أجل إصلاحها، فإنه يفتح لنا نوافذ عظيمة على السماوات الأخرى والملكوت المحجوب ويقدم لنا في لمحات خاطفة ما يثير عقولنا وأشواقنا لهذا الملكوت الممتد وراء حواسنا بلا نهاية.

أضف تعليق

error: